يقولون إن المنتصرين يكتبون التاريخ، لذا فمن الواضح بعد انقضاء ثلاث سنوات على الانهيار الذي ضرب الأسواق المالية مَن الفائز ومَن الخاسر، فها هو "وول ستريت" يفتح ذراعيه منتشياً بالانتصار الذي يبدو له في الأفق، فيما ملايين العائلات الأميركية تصارع للوقوف على قدميها. ومع اقتراب النصر ينبرى الفائزون إلى كتابة روايتهم الخاصة عن الأحداث التي تناقض كل الحقائق والمعطيات. فالهوة الشاسعة في الغنى بين من هم في أعلى السلم الاقتصادي ومن هم في أسفله، لم تكن أكبر مما هي عليه الآن، حيث تسيطر أكبر عشرة بنوك في الولايات المتحدة على أكثر من ثلاثة أرباع الموجودات البنكية في أميركا قاطبة. هذا في الوقت الذي عادت فيه الأرباح البنكية إلى سابق عهدها، وحطمت تعويضات وحجم التداول في وول ستريت الرقم القياسي بوصولها 135 مليار دولار. أما على الجانب الآخر فيعاني 24 مليون أميركي من البطالة، أو عدم توافر وظائف دائمة، زد عليها المدخرات العائلية التي تبخرت منها تسعة مليارات دولار، والنتيجة انعدام الصلة بين من سبب الأزمة الاقتصادية ومن يدفع ثمن تداعياتها. ورغم وضوح تقرير لجنة التحقيق في الأزمة المالية في تفصيل الأسباب التي أرجعها إلى تهور الصناعة المالية والإخفاقات المشينة للساسة والمسؤولين عن التنظيم والمراقبة ممن تسببوا في انهيار الاقتصاد أواخر العام 2008، يحاول البعض قلب الحقائق التي ظلت قائمة منذ صدور التقرير في يناير الماضي. إذن كيف تمكن إعادة كتابة التاريخ ومراجعة رواية الأحداث فيما الوقائع مازالت ماثلة أمامنا وتوصيات اللجنة لم يجف حبرها بعد؟ ومع ذلك، ثمة من يسعى إلى تزييف الواقع عملاً بمقولة إن الكذب أسرع انتشاراً من الحقيقة. فلو كنت النائب الجمهوري، بول ريان، ستتجاهل أن عجز الموازنة الفيدرالية تضاعف بأكثر من تريليون دولار منذ الانهيار المالي الأخير، وستصرف انتباهك عن حقيقة أخرى تقول إن ثلثي هذا العجز يعودان مباشرة إلى الركود الاقتصادي وإجراءات الإنقاذ التي وافق عليها الحزبان معاً لإخراج الاقتصاد من وعكته. لكن بدلًا من التركيز على هذه الحقائق وإسناد الأسباب إلى الأزمة التي فاقمت العجز، يذهب البعض -ومن بينهم ريان- إلى الخلط بين العجز الحالي والتحديات طويلة المدى، مثل برامج الرعاية الطبية، بهدف واحد ووحيد هو التخلص من شبكة الحماية الاجتماعية التي يستفيد منها الأميركيون. ولو كنت آلان جرينسبان لتراجعت عن اعترافك في العام 2008 بالصدمة "لانهيار الصرح الفكري" الذي روجت له نظرية إزالة الرقابة على القطاع المالي، بحيث عاد اليوم بعدما أصيب بفقدان الذاكرة لانتقاد جهود فرض الرقابة على التعاملات المالية. وبعدما دفع الاقتصاد إلى الحافة، ها هو يرجع لإعطائنا الدروس مجدداً. أما لو كنت المسؤول الأول عن الاستثمار في بنك "جي بي مورجان" لفندت تصريحات مدير البنك في عام 2010 أمام لجنة التحقيق في الأزمة المالية، عندما حمّل مسؤولية الانهيار المالي لـ"فريق الإدارة وليس إلى أي جهة أخرى"، لكن مع ذلك ها هو نفس الرجل اليوم يسعى إلى مراجعة كل ما قيل وإعادة كتابته بلغة أخرى يحمل فيها المسؤولية للسياسة الفيدرالية في مجال الإسكان. فاليوم وبعد مرور وقت قصير على الانهيار يغض معظم أعضاء الكونجرس الجمهوريون النظر عن السجل الطويل لتجاوزات الإقراض والتلاعب بالمستهلكين، التي انخرطت فيها المؤسسات المالية، ويركزون بدلًا من ذلك على التعهد بوقف تعيين مدير مكتب الحماية المالية للمستهلك الذي أنشئ مؤخراً، بحيث يتم التعامي عن الانتهاكات الخطيرة ومظاهر الإفراط التي ميزت عمل المؤسسات المالية لانتقاد الهيئات الرقابية التي تسعى إلى الحد منها. وعلى امتداد الرقعة السياسية، يرفض المنتصرون الاعتراف بالأخطاء، بل يسعون إلى إيقاف كل من يحاول تصويبها. لكن قبل إعلان النصر النهائي، يتعين أولًا الاعتراف بالحقائق التالية: لابد من مقاضاة أصحاب الاختلالات المالية لمنع ارتكابها في المستقبل، والعمل بكل حزم على إقرار إصلاحات مالية لكبح التهور والانجرار وراء المخاطر، والقضاء على تضارب المصالح في وول ستريت، بالإضافة إلى إصلاح الخلل في نظام التعويضات، أما الإصرار على المضي في نفس الطريق دون إصلاح فقد يلهينا عن المهمة العاجلة المتمثلة في إعادة الناس إلى العمل وخلق ثروة حقيقة لمستقبل أميركا، فعلى مدار السنوات الماضية أنفقنا تريليونات الدولارات على المضاربة بدل الاستثمار الحقيقي في التكنولوجيا والبنية التحتية والطاقة النظيفة والتعليم... وهي قطاعات تسهم في رفع الإنتاجية وتعزيز الاقتصاد. وفيما كانت حصة القطاع المالي من أرباح الشركات في عام 1980 لا تتعدى 15 في المئة، قفز الرقم في عام 2000 إلى 33 في المئة، كما أن ديون القطاع المالي ارتفعت من 3 تريليونات دولار عام 1978 إلى 36 تريليون دولار عام 2007. وبارتفاع معدلات البطالة وامتدادها لتصل إلى عشرات الملايين من الأميركيين، يكون قد حان الوقت للانتقال من اقتصاد قائم على المال المولد للمال إلى آخر يعتمد على المال المنتج للوظائف والازدهار الحقيقي. فيل أنجليدز رئيس لجنة أنشأها الكونجرس الأميركي للتحقيق في الأزمة المالية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"