لم يسبق أن قام الكونجرس الأميركي -بغرفتيه: النواب والشيوخ- بتقليد النموذج العربي في "الردح" السياسي كما فعل مع خطاب نتنياهو! حيث صفق الحضور أكثر من 29 مرة لذلك الخطاب الذي استهدف توضيح موقف إسرائيل مع عملية السلام في الشرق الأوسط، وصلف نتنياهو في تحدي العرب والقرارات الدولية الخاصة بعدوان عام 1967؛ وإعلانه أن "القدس عاصمة إسرائيل الموحدة". فذلك الترحيب وتلك الحفاوة لم يظفر بهما أي خطاب في ذلك المكان حتى للرئيس الأميركي نفسه. وعلى لسان أميركيين وإعلاميين إسرائيليين فإن نتنياهو لامسَ ودغدغ عواطف الأميركيين النافذين الذين يتهافتون على الانتخابات المقبلة وهم "يمتطون" المال والنفوذ اليهودي، ما يجعل كل اتجاه نحو السلام مع العرب أمراً مستحيلاً! ولكأن نتنياهو قد هاجم أوباما في عقر داره، وخاصة أن هذا الأخير كان قد بشّر قبل أيام قليلة من خطاب نتنياهو الفج بخطوات "عادلة" من أجل حل مشكلة الشرق الأوسط وبناء الثقة وقيام الدولة الفلسطينية. وكان أوباما قد اقترح حلاً نهائيّاً للنزاع العربي الإسرائيلي، بأن تقبل إسرائيل الدولة الفلسطينية حسب حدود 1967، ويطلب من الفلسطينيين التخلي على حق العودة للاجئي 1948، على أن تكون القدس عاصمة للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، هذا مع التأكيد على أن حماية إسرائيل أمر أساسي وأولوية مطلقة! وعلى رغم مرارة هذا التصور الأميركي الذي لا يرتقي إلى حقوق وآمال العرب والفلسطينيين، ويهدر المواقف العربية في حق العودة، وإزالة المستوطنات، وأن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نسف هذا التصور، ووضع أوباما في زاوية ضيقة، عندما أعلن ومن مبنى الكونجرس الأميركي نفسه ووسط تصفيق حار وتشجيع من الأميركيين الرسميين، أنه لن يتخلى عن القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، ولا حديث عن حدود 1967. وأمعن نتنياهو في تحديه لكل القيم التاريخية والإنسانية بزعمه أن "اليهود ليسوا محتلين في يهودا والسامرة"؛ ويقصد الضفة الغربية المحتلة! وزاد في إحراجه للموقف الأميركي بأن إسرائيل لن تعود إلى حدود 1967 متعللاً بأنه لا يمكن الدفاع عن تلك الحدود لو ردت للعرب! مع تأكيده بأن "بعض المستوطنات ستبقى خارج حدود إسرائيل بعد توقيع اتفاق السلام مع الفلسطينيين". ولم يخف نتنياهو الدهاء والمكر الصهيوني، عندما دعا الرئيس عباس إلى "تمزيق" اتفاقه مع "حماس"، وأن يجلس ويفاوض من أجل صنع السلام مع الدولة اليهودية! وأمعن في مراوغاته زاعماً أن الفلسطينيين يواصلون تربية أولادهم على الكراهية وإطلاق أسماء إرهابيين على مرافق عامة! والحال أن خطاب نتنياهو المذكور حاول أن يلعب فيه على أوتار العاطفة الأميركية، ويصور إسرائيل على أنها دولة "حملية" -نسبة إلى الحَمَل الرضيع- محوطة بـ"أشرار" وجيوش جرارة! وللأسف، فإن الأحداث حول إسرائيل ناقضت هذه النظرية، فالجيوش الجرارة نشاهدها تسحق الشعوب العربية المطالبة بالحرية ونبذ الأنظمة الفاسدة، والدبابات العربية تدوس المواطنين ولم تعرف -خلال أربعين عاماً- الطريق نحو إسرائيل! فكيف يمكن لنتنياهو أن يقنع الأميركيين بهذه النظرية؟! إن خط الرمال الذي رسمه نتنياهو في الكونجرس الأميركي لن يحقق السلام المنشود؛ خصوصاً أنه لن يمر عبر حدود 1967، الذي اعترف به الرئيس الأميركي نفسه واعتبره ركيزة أساسية لأي اتفاق سلام بين العرب والإسرائيليين. كما أن هذا الخط لن يقترب من القدس، ولن يقترب من حق العودة للاجئين. والأنكى من ذلك أن يتقبل أعضاء الكونجرس هذا الطرح -المخالف للقرارات الدولية الخاصة بعدوان إسرائيل على الدول العربية عام 1967- بكل تلك الحفاوة والتصفيق الحار. وكان خطاب نتنياهو استباقيّاً، وهدفَ من ورائه عرقلة حصول الفلسطينيين على الاعتراف الدولي بقيام الدولة الفلسطينية خلال مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم. لقد عكست صحف أميركية وأوروبية خيبة أمل أوباما من خطاب نتنياهو الذي اعتبرت أنه احتوى على عبارات تعرقل عملية السلام، في الوقت الذي أحدث "دويّاً" حماسيّاً في الكونجرس لم يسبق له مثيل؛ مخالفاً بوضوح مشروع أو رؤية أوباما المتفاءلة نوعاً ما بإمكانية إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي. وهذا يثبت أن إسرائيل تتصور أنها هي التي "تفصّل" الحلول، وهي التي تضع المشاريع، ولا يستطيع أحد أن ينازعها في ذلك، حتى الرئيس الأميركي نفسه! وما يدعو للعجب، أن نتنياهو قال إنه: "مستعد لتقديم تنازلات مؤلمة لتحقيق هذا السلام التاريخي"!؟ ولا نعلم ما مدى "إيلام" هذه التنازلات، إن كانت في مجملها تتجاهل الحق العربي، وتضمن توسع إسرائيل وتدعم احتلالها للأراضي العربية؟! وأين التنازلات في قوله: "إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين سوف تحل خارج حدود إسرائيل"!. وإن القدس يجب ألا تقسّم مرة أخرى، و"إنها ستبقى عاصمة إسرائيل الموحدة" والأخطر "عدم العودة إلى حدود 1967"! إن هذا الخط الواهن الذي رسمه نتنياهو في الرمال المتحركة لا يمكن أن يأتي بحل عادل ودائم في الشرق الأوسط، كما يتمنى العرب، وإن العرب المنتظرين من إسرائيل سلاماً وخبزاً وزيتوناً سوف "تبيضُّ أعينهم من الحزن".