على فترات دورية، يظهر على الأمة الأميركية نوع من القابلية للإصابة بأنواع من الحمى الدينية الرسولية. فكلما وقع هجوم بالغ العنف إلى حد ما، تبع ذلك نوع من الهذيان الذي يتبدى في صورة أوهام تتعلق بالعظمة، وسلوك مجنون. وعندما تمر الحالة، ويتم استرداد قدر من العافية، فإن ذكريات ما حدث خلال فترة المرض تنحو لأن تكون غائمة. والسؤال هنا هو: ما الذي حدث؟ وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ للأسف أن معظم الأميركيين لا يحبون التوقف عند الأسئلة طويلاً، وإنما يكتفون بترديد عبارات تهدف لبث الطمأنينة من قبيل: أحس أنني قد أصبحت أفضل كثيراً الآن! شكراً لك! هناك أمثلة عديدة من التاريخ على تلك الحالات. ففي عام 1898 أظهر الأميركيون رغبة لا يمكن كبحها في تحرير الكوبيين المقهورين، وعندما عادوا إلى رشدهم، بعد أن حصلوا على قطع أراضٍ تتناثر بين برتوريكو والفلبين، لم يكن بمقدور أحد منهم أن يشرح ما الذي حدث بالضبط، ولماذا! وفي عام 1917 عادت الحمى مجدداً. فوسط هذيانات بالغة الغرابة حول شن الحرب لإنهاء الحرب، تدفق الأميركيون على فرنسا، وفي هذه المرة انقضت المصيبة سريعاً، رغم أن دورة العلاج كانت مؤلمة، وهي الحبس في أقبية وسراديب الجبهة الغربية، ثم تناوُل دواء مر في فرساي. وفي عام 1960، شهدنا جولة أخرى حيث انتابت الأمة الأميركية رغبة جامحة في دفع أي ثمن وتحمل أي عبء، انتهت بها أخيراً في فيتنام. وبدا سقوط سايجون عام 1975، ولفترة قصيرة، وكأنه قد طعّم الأمة الأميركية ضد أي تكرار آخر. لكن تلك التأثيرات الوداعية لهذه "المتلازمة الفيتنامية" بدت عابرة كالبرق الخاطف. وعندما جاء الوقت الذي انتهت عنده الحرب الباردة، كان الأميركيون يعانون من حمى أخرى، عندما ارتفعت نظرتهم لأنفسهم وتقديرهم لها إلى ذرى سامقة جديدة، على نحو مثير للدهشة. ثم جاء الحادي عشر من سبتمبر، وتجاوزت الحمى كل الحدود، كانت الأمة صاحبة الرؤية الرسولية غاضبة أشد الغضب، فانطلقت لتحل الأمور بطريقتها مرة واحدة وإلى الأبد. لقد مرت عشر سنوات على انطلاق واشنطن لاسترداد "الشرق الأوسط الكبير"، لكن الحملات لم تنته على النحو المأمول، بل أن ما حدث هو أن "المسيح الأميركي" في سعيه لتحقيق مهمته التي كان يراها مقدسة، استنزف نفسه لحد كبير. واليوم تظهر حمى الحادي عشر من سبتمبر علامات تدل على أنها قد بدأت تخف تدريجياً، رغم أن المرض لم يذهب تماماً بعد. والشيء الغريب أن بقايا المرض تتركز الآن على نحو غريب في البيت الأبيض الذي يشغله أوباما، حيث ما يزال الحرص على التعبير عن المثل والقيم الأميركية من خلال إسقاط القنابل باقياً ولا يزول. ورغم الدوافع لدى بعض أعضاء إدارة أوباما بعد مرور عقد من الحروب هنا وهناك، فقد بات الشفاء الأميركي أمراً ممكناً حسب دلائل عدة، منها: * في واشنطن، لم يعد التشكيك في القدرة الكلية للولايات المتحدة، أي قدرتها على فعل أي شيء تريده، خطيئة، كما كان الحال من قبل. * منذ ما يزيد عن عقد من الزمان كانت "حروب الاختيار" هي الموضة السائدة في واشنطن، والأمر لم يعد كذلك الآن. * في المؤسسة العسكرية لم يعد هناك ما يطلق عليه "العقل العسكري"، وإنما أصبح هناك العديد من العقول في هذه المؤسسة، بعضها يعيد التفكير حالياً في دور القوة الأميركية. وضمن هذه العقول اثنان من الخبراء العسكريين المحترفين، أحدهم عقيد في السلاح البحري والآخر عقيد في المارينز، وقد أعدّا "الوثيقة الاستراتيجية الوطنية" التي نالت استحسان الخبراء العاملين في "مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء"، بسبب خلوها من العبارات الدالة على التعصب القومي، واستعراض القوة، وقرع طبول الحرب، والمطالبة بميزانيات عسكرية أكبر. والموضوع المهيمن في هذه الوثيقة المهمة هو البراجماتية التي تعني أنه بدلاً من سعي الولايات المتحدة لفرض إرادتها على العالم، فمن الأفضل لها، كما يطالب هذان الخبيران العسكريان، أن تركز أكثر على الاستثمار في الوطن. ويرى الخبيران أن العالم أكبر من أن تستأثر قوة واحدة -مهما بلغت قدرتها- بالهيمنة على مقدراته والتحكم فيه والاستئثار بقيادته وبإصدار الأوامر له. وهما يصران على أن أي محاولة للهيمنة على العالم سوف تبوء بالفشل ولن تخلف إلا الخسران. * الدليل الأخير هو الكونجرس الأميركي؛ فبعد أن كان قد جاء وقت بدأت فيه هذه المؤسسة العريقة، والتي طالما شهدت مساجلات حامية، وكأنها قد دخلت في مرحلة خمول ممتدة، إذا بومضات دالة على الحياة والحيوية تخفق في أرجائه، ويبدأ الديمقراطيون والجمهوريون بعدها -كل لأسبابه الخاصة- في طرح الأسئلة وتقديم الاستجوابات حول جدوى الدخول في حروب متعددة مفتوحة النهايات. بعض أعضاء الكونجرس يستندون في أسئلتهم على عدة أشياء؛ منها القلق على الدستور، والقلق من إساءة استخدام السلطة التنفيذية، في حين يهتم أعضاء آخرون بفاتورة الحروب وتكاليفها الباهظة. وبعض الأعضاء يقولون إن الوقت قد حان لإعادة التفكير في الأولويات الاستراتيجية لأميركا. وإذا ما أخذنا بنتائج استطلاعات الرأي التي يتم إجراؤها، فسوف نرى عدم رضا متزايد بشأن الحرب في أفغانستان، خصوصاً وأن الحديث ضد الحرب اليوم لم يعد يحتاج إلى شجاعة سياسية كما كان الأمر منذ سنوات. وحالياً تظهر دلائل على أن مشرِّعينا يقومون بإعادة التأكيد على دورهم في تقرير ما إذا كانت الحرب -في أفغانستان- تخدم المصالح القومية الأميركية أم لا تخدمها، بدلاً من الاكتفاء -كما كان الأمر في السابق- بالموافقة التلقائية على تخصيص الاعتمادات للحروب. وبعد مرور ما يقارب عقد من الزمان على آخر سقوط في هوة الجنون، هناك من الدلائل ما يؤشر على أن الشفاء بات ممكناً في آخر المطاف. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة " إم. سي. تي. إنترناشيونال"