ربما لا يكفي الانتصار الذي حققه "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة للحد من القلق الذي يشعر به زعيمه رئيس الوزراء أردوغان جرّاء ما يحدث على حدود بلاده الجنوبية. فقد أصبح مشروعه الإقليمي الطموح في الشرق الأوسط مهدداً بمقدار ما تتدهور الأوضاع في سوريا التي اختارها بوابة لهذا المشروع. وعبر هذه البوابة، نفذت حكومة أردوغان إلى لبنان والأردن ووضعت أساساً قوياً لسوق مشتركة صغيرة تتوسع تدريجياً وتشمل دولاً أخرى. وبدا هذا الأساس مبشراً بالفعل عبر التقدم السريع الذي تحقق على صعيد تحرير التجارة وتطوير العلاقات الاقتصادية وإلغاء تأشيرات الدخول لتسهيل انتقال الأفراد والسلع والخدمات. وكان ازدياد حضور تركيا في العراق بالتوازي مع التحول الكبير في علاقاتها مع سوريا ولبنان والأردن، والسعي في الوقت نفسه إلى دعم العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، دليلاً على طموح مشروعها الإقليمي الذي يواجه مأزقاً تاريخياً الآن بسبب توسع نطاق الاحتجاجات في سوريا وما يقترن بها من توتر على الحدود بين البلدين. فقد أخذ أردوغان يفقد الأمل يوماً بعد الآخر في استجابة الرئيس السوري للمطالب الإصلاحية، بما فيها النصائح التركية. وكان واضحاً أن اهتمام أنقرة البالغ بالوضع في سوريا يدفعها إلى عدم الاكتفاء بالنصح العام بشأن ضرورة الإصلاح والاستماع إلى صوت الشعب. لذلك حاولت مساعدة دمشق عبر اقتراح خريطة طريق نحو حل سلمي. غير أنه مع دخول الاحتجاجات شهرها الثالث، بدأ أردوغان ينأى بنفسه تدريجياً عن الأسد الذي كان قد راهن عليه وأقام علاقة حميمة معه. وكان ملحوظاً أن الزعيم التركي يرفع جرعة تحذيراته مع كل تصريح يدلي به، لكن مع الحرص على عدم حرق الجسور. فقد استثمرت تركيا سياسياً، وليس فقط اقتصادياً ومالياً، في بناء هذه الجسور التي لا يزال أردوغان حريصاً عليها. غير أن هذه الجسور، أو ما سيبقى منها، يظل مهدداً إذا اضطرت تركيا إلى دعم إقامة منطقة عازلة في داخل الحدود السورية حتى لا تضطر لاستقبال أعداد من الفارين تفوق قدرتها على الاستيعاب إذا تفاقم الوضع. ورغم أن تركيا لن تشارك على الأرجح بشكل مباشر في أية عمليات عسكرية لحماية المنطقة العازلة حتى إذا أقيمت عبر قرار دولي من مجلس الأمن، فالأكيد أنها ستكون حاضرة بقوة في أعمال الإغاثة الإنسانية لنجدة من يهرعون إليها هرباً من العنف. وقد بدأ دور تركيا في هذا المجال عندما تحركت منظمات إغاثة تابعة لها منذ يوم 19 يونيو الماضي لمساعدة السوريين الذين هربوا إلى المنطقة الحدودية لكنهم ظلوا داخل بلدهم. ورغم صعوبة إيجاد بديل لدور سوريا في سياسة تركيا الإقليمية الراهنة، ربما يكون التغيير الذي يحدث في مصر الآن دافعاً لحكومة أردوغان إلى الاقتراب منها. وقد يسعى هذا الاقتراب إلى أن تصبح مصر بوابة ثانية لتركيا إلى العالم العربي. وربما لا تخفى دلالة أن عبد الله غول كان أول رئيس دولة زار مصر بعد ثلاثة أسابيع على تنحية الرئيس السابق مبارك، وحرص على استقبال وفد من شباب الثورة المصرية زار تركيا في أبريل الماضي. كما بادر باقتراح عقد مؤتمر دولي لدعم الاقتصاد المصري، وحث الإدارة الأميركية على ذلك. غير أن العلاقة التركية مع مصر تختلف بالضرورة عنها مع سوريا. تعرف القيادة الحالية في أنقرة أهمية دور مصر في المنطقة. ويرى وزير خارجيتها أوغلو، في كتابه المشهور "العمق الاستراتيجي" الذي تُرجم إلى العربية العام الماضي بعد عشر سنوات على إصداره، أن تركيا وإيران ومصر هي العمد الرئيسية الثلاثة للشرق الأوسط. لكن مصر لا تعوّض دور سوريا إذا ازداد الاضطراب فيها. فغلق الحدود مع سوريا يعنى إقفالها مع لبنان والأردن أيضاً. ومنطقة المشرق العربي هي البداية الطبيعية لبناء نواة السوق المشتركة الإقليمية التي تطمح تركيا لتحقيقها تدريجياً في الشرق الأوسط. ولا يمكن لهذه النواة أن تستمر من دون سوريا. ومع ذلك ربما تستطيع تركيا المحافظة على مقدار معقول من الوهج الذي تميزت به سياستها الإقليمية في الفترة الأخيرة إذا حدثت نقلة في علاقتها مع مصر. فقد سعي أردوغان وفريقه من قبل إلى علاقات أقوى مع القاهرة، التي وضع نظامها السابق سقفاً لهذه العلاقات أقل مما تطلعت إليه تركيا. ويعود ذلك إلى سببين زالا مع التغيير الذي حدث ويحدث في سياسة مصر الخارجية الآن. كان الأول موضوعياً ويتعلق بنهج محافظ اختارته مصر التي رأى نظامها السابق أن مصلحتها تكمن في وضع حد لدورها خارج حدودها، لذلك فعندما نشطت الديبلوماسية التركية في الشرق الأوسط، لم تتجاوب مصر مع هذا النشاط إلا في حدود معينة، خصوصاً عندما بدا لها أن أردوغان يزاود عليها في قضية الصراع العربي الإسرائيلي. أما السبب الآخر الذي دفع مصر إلى وضع سقف للتطور في علاقاتها مع تركيا فهو أمني. كانت القاهرة قلقة من علاقات وروابط اقتصادية قائمة بين بعض الشركات المملوكة لأعضاء في جماعة "الإخوان المسلمين" التي كانت محظورة وملاحقة وشركات أخرى تابعة لبعض قادة وأعضاء "حزب العدالة والتنمية". وقد شملت المحاكمة العسكرية التي أجريت في عام 2007، أحد قادة "الإخوان المسلمين" الذين أقاموا شراكات اقتصادية مع أتراك، لكن ليس لهذا السبب بطبيعة الحال. أما وقد تغير الوضع ولم تعد جماعة "الإخوان المسلمين" محظورة، بل أصبح الحزب الحاكم السابق الذي فرض عليها الحظر هو الممنوع، وأخذت القيادة المصرية الانتقالية تنشط إقليمياً على نحو قد يزداد بعد الانتخابات وتشكيل حكومة منتخبة سيكون الإسلاميون طرفاً فيها، فلم يعد ثمة ما يمنع حدوث نقلة كبيرة في العلاقات مع تركيا. ولن يكون صعباً تحقيق ذلك إذا أرادت تركيا أن ترفد مشروعها الإقليمي برافد يعوضه شيئاً، مما يخسره جرّاء الوضع في سوريا، وأبدت مصر استعداداً لبناء علاقات مميزة ستكون أجدى وأكثر فائدةً لها وللمنطقة عموماً، إذا قورنت بإعادة العلاقات مع إيران. فهناك أساس مادي يمكن البناء عليه بعد التوسع الذي حدث في التبادل التجاري منذ توقيع الاتفاق الذي استهدف تحريره وإزالة الحواجز أمامه عام 2005. كما أن الخط الملاحي المنتظم الذي تم الاتفاق في نهاية العام الماضي على تسييره يمكن أن يساعد في دعم العلاقات رغم أنه لم يُختبر بعد بسبب الركود الذي ضرب الاقتصاد المصري منذ ثورة 25 يناير. والحال أن آفاقاً رحبة تنتظر العلاقات المصرية التركية في الفترة القادمة على نحو يجعل للقاهرة مصلحة في إعطائها أولوية في سياستها تجاه القوى الإقليمية غير العربية.