المجتمعات العربية اليوم في مخاض عسير، وفي القرآن الكريم عبارة تُذكِّر بهرب أهالي "جسر الشغور" إلى تركيا: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم". فبوابة الموت هي بداية الحياة، وفي هذا شرح لولادة الشعب السوري في أتون الموت ومن قيود العبودية. فهل نحن أمام استعصاء دائم في نفق التاريخ أم أننا سنخرج؟ إن موت الأمة يذكر بموت مفكريها ونهاياتهم المأساوية؛ فقد مات الوردي، عالم الاجتماع العراقي، ولم يسر في جنازته إلا رهط قليل، أما النيهوم الليبي صاحب كتاب "إسلام ضد الإسلام" و"محنة ثقافة مزورة" فضاع رمسه. وهذه المكافأة من الأمة لمفكريها مؤشر على غيبوبتها التاريخية، ومصير الوردي يذكر بنهاية ابن رشد الذي عاش نهاية حياته منفياً في قرية يهودية وحرقت مؤلفاته. وأما الطبري، المفسر والمؤرخ المعروف، فقد دفن سراً تحت جنح الظلام خوفاً من الرعاع الذين اتهموه بالرفض، بينما يعد مالك بن نبي مجهولاً في بلده الجزائر... فالفكر يبحث له دوماً عن تربة مناسبة. هكذا انتقلت أفكار بوذا إلى الصين، وهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يثرب فسميت بالمدينة المنورة، وحمل حواريو المسيح دعوتهم إلى روما، وهرب "الهوجنوت" من فرنسا إلى برلين، كما لجأ "النساطرة" إلى بغداد، وفر علماء القسطنطينية بعد الفتح العثماني باتجاه الغرب. إن هجرة الفكر تحدث حينما يلج الوطن استعصاءً تاريخياً فتمتلئ المعتقلات بالأحرار. والوطن العربي اليوم مقيد في زنزانة تاريخية من أربع زوايا: مواطن تائه، وفقيه غائب عن العصر، ومثقف مدجن، وزعيم مؤلَّه. لقد آن الوقت لاستيعاب ثلاث حقائق: التخلي عن التعظيم الذي يقترب من التأليه، والحب الجنوني، وأن شخصاً ما يستطيع أن يلم بكل شيء. فالديمقراطيات اليوم تعكف على تشريح "بشرية" الزعماء أكثر من تقديسهم، وهذا العمل يفيد والثاني يعطل. إن دخول المجتمعات نفق الاستعصاء ليس غريباً عن التاريخ، وحالة الاستعصاء عادة ما تنتهي بإحدى ثلاث كوارث: اجتياح خارجي، أو تحلل داخلي يفضي إلى فتنة أو ثورة، ثم تحنط في براد مشرحة الموتى. والجثة عندما تدخل الموت تمر عبر ثلاث بوابات: أولاها المحافظة على الشكل مع توقف الوظيفة (الصمل الجيفي)، وثانيها مرحلة التفسخ والتحلل حيث تتصاعد رائحة الموت، وأخيراً مرحلة الاجتياح الخارجي حيث تبدأ طوابير لا تنتهي من فرق الحشرات تتناوب على التهامها. إن القرآن الكريم ينقل إلينا أخبار الأمم التي دخلت نفق الاستعصاء التاريخي فلم ينفع معها إلا الاستئصال الكامل، وهكذا تم تدمير مجتمع نوح استجابة لدعائه: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا". أما قوم لوط فقد أحرقوا بالبركان لتطهير الأرض منهم بعد أن تورط كامل المجتمع بالشذوذ الجنسي وأصبح من لا يمارسه عرضة للسخرية: "إنهم أناس يتطهرون". بينما أرسل الله على قوم عاد "ريحا صرصرا عاتية فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية". وهناك استعصاء تاريخي واجهه فتية الكهف بعد أن دخل المجتمع نفق الاستبداد، ففروا مع كلبهم بعد أن لم يبق لأحد ضمانة. لكن أعظم استعصاء تاريخي كان في المجتمع الفرعوني. إن قصة كاملة من قصص القرآن الكريم، في أطول سورة وهي سورة البقرة، تحمل الترميز العميق لمأساة دخول المجتمع حالة الاستعصاء التاريخي. Summary && أشرف &&