يمكن القول بعد مضي أشهر ثلاثة على تحول الثورة الليبية إلى نزاع داخلي مسلح (بدعم أوروبي أطلسي) أن المشهد الليبي الراهن يتلخص في معطيات ثلاث بادية للعيان: أولاً:انهيار المنظومة السياسية الحاكمة في ليبيا منذ سنة 1969، أي نظام الحكم الذي أرساه القذافي منذ وصوله للسلطة وأخذ شكله النهائي عام 1977في ما أطلق عليه "النظام الجماهيري"، الذي أراده تطبيقًا لـ"نظريته العالمية الثالثة" البديلة عن النسقين الأيديولوجيين المتصارعين أوانها (الرأسمالية والاشتراكية).فعلى الرغم من احتفاظ القذافي بالسيطرة على مناطق واسعة من ليبيا، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن قاعدة حكمه قد انهارت عملياً، في حين يلوح ابنه المرشح لخلافته (سيف الإسلام) بعملية انتقال نحو نظام برلماني تقليدي في ما يشكل إقراراً صريحاً بنهاية الوهم الجماهيري. ثانياً: استقرار الجبهة العسكرية في خطوط مواجهة ثابتة تدل على استحالة حسم الصراع القائم عسكرياً، مع بروز موقف دولي واسع رافض للتدخل الخارجي المباشر على الأرض (على طريقة الحرب العراقية عام 2003).ومن الواضح أن قوات الحلف الأطلسي غيرت في الأسابيع الأخيرة استراتيجيتها الحربية من الضربات الجوية والصاروخية الكثيفة إلى استخدام المروحيات القادرة على استهداف دقيق للمواقع والقيادات السياسية والعسكرية لفرض شروط سياسية ملائمة لإنهاء النزاع، وقد استُخدمت هذه الاستراتيجية بنجاعة في ساحل العاج بالقبض على الرئيس السابق المتمرد باجبو وتحطيم قاعدته العسكرية والأمنية. ثالثاً: بروز مشاريع ومقترحات لتسوية النزاع، تمحورت في بعض المقاربات التي تقدمت بها أطراف أفريقية قريبة من القذافي. وتفيد التسريبات التي تناقلتها الأوساط الإعلامية أن الصيغة المطروحة حالياً تقوم على توفير ضمانات الخروج الآمن للقذافي من دائرة الحكم، مع إعطاء دور لحاشيته في المسار الانتقالي، وصولًا لانتخابات عامة تجري بإشراف دولي. ومع أن المجلس الانتقالي الحاكم لشرق ليبيا، قد رفض هذه المبادرة، إلا أن التصريحات الأخيرة لمفوضه الإعلامي "محمود شمام" لوحت بقبول الضمانات الشخصية للقذافي مع رفض أي دور سياسي لأفراد عائلته في الوضع الانتقالي. ما هي النتائج المتوقعة من هذه المعطيات التي أشرنا إليها؟ لا بد في البداية من التنبيه إلى أن الحالة الليبية تميزت عن الثورات الأخرى التي عرفتها الساحة العربية بجملة خصوصيات تفسر عسكرة الانتفاضة الشعبية ووضعية التقسيم والتفكك التي وصلت إليها البلاد. وليس من همنا الرجوع إلى الخلفيات التاريخية البعيدة لنشأة الكيان الليبي الحديث الذي نشأ من قرار السلطات الاستعمارية الإيطالية توحيد مناطق ثلاث متمايزة هي برقة وطرابلس وفزان في إطار دولة مندمجة. ولم يكتمل الطابع المؤسسي لهذا الاتحاد إلا عام 1951 عندما استقلت البلاد وأصبحت مملكة تحكمها الأسرة السنوسية، التي كانت تتمتع بالنفوذ الديني والسياسي في إقليم برقة. والواقع أن هذا الاندماج لم يكن ليتحقق لولا اكتشاف الثروات النفطية الهائلة التي غيرت جذرياً الأرضية الاقتصادية وخلقت مصالح حيوية تقتضي وجود كيان مركزي لتسيير الريع البترولي وإدارة شبكة العلاقات الخارجية والجيوسياسية المترتبة عليه. بيد أن الأمر يتعلق فعلًا بدولة مركبة الهوية الإقليمية والاستراتيجية بانفتاحها على فضاءات ثلاثة متمايزة الأبعاد والسياقات:المجال المغاربي الشمال الأفريقي المرتبط عضوياً بجنوب تونس وبالمسالك الصحراوية الغربية (منطقة طرابلس)، والمجال الشرقي المتصل بقوة بغرب مصر وبالمشرق العربي عموماً (منطقة بنغازي)، والمجال الصحراوي السوداني المرتبط بغرب أفريقيا وبلدان الساحل (منطقة فزان). ولم تنشأ تاريخياً في هذا الفضاء الواسع دول مركزية قوية إلا في لحظات قصيرة وبشكل متقطع: الدولة القرة مانلية (1711-1835)والدولة العثمانية (1835-1911)والدولة السنوسية في برقة (1870-1931). وتعود هذه الظاهرة إلى أسباب انثربولوجية عميقة وقف عندها الباحثون الاجتماعيون في دراستهم للمجال الصحراوي الشمال أفريقي الذي تميز إجمالاً بظواهر ثلاث هي: النسق القبلي الانقسامي الكابح لنشأة قطب سياسي مركزي، واقتصاد الغزو والغارة وما يرتبط به من ريع حماية يفضي في بعض الحالات إلى قيام زعامات محلية نافذة تقصر عن الشكل السياسي للدولة (كدولة أولاد محمد في فزان)، والدور السياسي للزوايا الصوفية التي قد تترجم رأسمالها الرمزي إلى معادلة سياسية (الدولة السنوسية). وبما أن المملكة السنوسية دامت أقل من عقدين، فإن البنية البيروقراطية الإدارية للدولة ظلت هشة ضعيفة، فلم تصمد أمام التجارب الغرائبية التي أصبحت ليبيا مختبراً لها بعد إمساك القذافي بمقاليد الحكم. كرس النظام الجماهيري في ما وراء شعارات "الديمقراطية المباشرة" حالة مركبة من الفوضى الشاملة والقبضة الأمنية المتشددة، واستخدم الريع النفطي الهائل لتمويل هذه الحالة النشاز . استهدف القذافي في بداية عهده الزعامات القبلية والدينية ودمر النسيج الأهلي، كما قوض النخب التجارية المدينية باسم قرارات التأميم الاشتراكي، قبل أن يدمر منذ نهاية السبعينيات البقية الباقية من الحياة السياسية ومن المنظومة الإدارية والمجتمع المدني. ولذا فإن الثورة الليبية التي انطلقت من مناطق الشرق التي احتضنت خلال الأربعين سنة الأخيرة أغلب محاولات التمرد على القذافي اصطدمت بغياب مؤسسة عسكرية حقيقية تحمي التغيير وتنقذ جهاز الدولة من الانهيار، كما حدث في تونس ومصر. وليس من الصحيح أن المعادلة القبلية هي التي أنقذت نظام القذافي من التحلل السريع، فالمؤسسة القبلية بمفهومها التقليدي الأصلي لم تعد فاعلة في الحراك السياسي، بالنظر لما تعرضت له من تنكيل وقمع في العقود الماضية، كما أن قاعدتها الاقتصادية وتركيبتها الداخلية قد تغيرتا جذريا من جراء سياسات "الرفاهية الاجتماعية"، التي خلقت حالة تبعية وارتباط مطلق بالسلطة المتحكمة في مغانم الريع النفطي، كما خلقت زعامات بديلة من داخل الشبكة الزبونية للنظام القائم. كما أن الخشية من تفكك الدولة الليبية ليست واردة. قد يتطلب حل الأزمة الليبية وقتاً طويلًا وتكاليف باهظة، لكن من المؤكد أن البلاد دخلت فعلاً في مرحلة ما بعد جماهيرية القذافي.