من الكونجرس إلى قيادة البنتاجون، مروراً بمكتب البيت الأبيض، ثم إدارة الـ"سي، آي، أيه"... رحلة تلخص سجلاً طويلاً من العمل الحكومي، ويتعين على ليون بانيتا إكمالها بالنجاح الذي يأمله منه أوباما، على مشارف تحديات عسيرة في أفغانستان والعراق وباكستان وليبيا، وفي المياه الآسيوية والصحراء الأفريقية أيضاً. فيوم الثلاثاء الماضي، أعطى مجلس الشيوخ الأميركي موافقته النهائية على تسمية بانيتا وزيراً للدفاع خلفاً لروبرت جيتس، حيث صوت أعضاء المجلس المئة، في إجماع نادر حول مسؤول حكومي فدرالي، ليصبح بانيتا البالغ من العمر 73 عاماً، أسن شخص يترأس "البنتاجون" منذ تدشين بنايته الحالية، خماسية الأضلاع، في مدينة أرلنغتون بولاية فيرجينيا عام 1943. ويأتي بانيتا إلى البنتاجون مدفوعاً بالنجاح الذي حققته الاستخبارات المركزية الأميركية تحت إدارته متمثلاً في القضاء على ابن لادن مطلع الشهر الماضي. وقد ولد ليون ادوارد بانيتا عام 1938 في مدينة مونيتري بولاية كاليفورنيا لأبوين مهاجرين من أصل إيطالي، والتحق بجامعة "سانتا كلارا" ليتخرج منها عام 1960 بشهادة في العلوم السياسية، ثم أكمل دراسته العليا ونال شهادة الدكتوراه في القانون عام 1963، فأصبح بانيتا محامياً وأستاذاً في نفس الجامعة. أما حياته السياسية فبدأت بانضمامه للحزب الديمقراطي عام 1971، ليفوز في عام 1977 بمقعد في مجلس النواب عن الدائرة السادسة عشرة في ولاية كاليفورنيا، وهو المقعد الذي بقي فيه حتى عام 1992. وخلال تلك الفترة ترأس بانيتا العديد من اللجان البرلمانية، وبعد مغادرته الكونجرس تولى رئاسة مكتب الإدارة والميزانية في عهد كلينتون، ثم شغل منصب مدير موظفي البيت الأبيض حتى يناير 1997، حيث غاب عن الواجهة الرسمية إلى أن عيّنه أوباما، في فبراير 2009، مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية. وكمدير للـ"سي، اي، ايه"، نجح بانيتا في إعادة الاعتبار للوكالة بعد الانتقادات المريرة التي وجهت لها بسبب فشلها في منع وقوع تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وذلك رغم مقتل سبعة من ضباطها في تفجير انتحاري بأفغانستان عام 2009. لكنه كان يقود الوكالة حين استطاعت الوصول أخيراً إلى بن لادن وقتله، وهو دور أشاد به الكونجرس كأهم انتصار للوكالة منذ إنشائها عام 1947 لمحاربة الشيوعية قبل انتهاء الحرب الباردة عام 1989. لكن هل تكفي خبرة الـ"سي، ايه، اي" لإدارة البنتاجون وسط تحديات غير مسبوقة للاستراتيجية الأميركية العالمية؟ يواجه بانيتا مهام صعبة على رأسها البدء بسحب القوات الأميركية من أفغانستان، وكذلك إتمام انسحابها من العراق. لكن معركته الأولى سيكون مسرحها الكونجرس الذي يطالب بتخفيض مخصصات البنتاجون بـ400 مليار دولار خلال السنوات الـ12 القادمة. وكان رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ قد دعا وزير الدفاع الجديد إلى فحص جميع البرامج والنفقات العسكرية واعتماد خيارات صعبة لتحديد الأولويات، بغية تقليص أكبر عجز في الموازنة الأميركية في خضم الأزمة المالية الراهنة. وسبق لجيتس أن أعلن في يناير الماضي عن تخفيضات بلغت 78 مليار دولار، بما فيها التخلي عن خطة لاقتناء عربات برمائية تكلف 13 مليار دولار. لكن خلافاً لجيتس، العسكري الذي عينه بوش وأبقى عليه أوباما في منصبه، سيستثمر بانيتا في المعركة القادمة خبرته البرلمانية في قضايا الموازنة، إذ سبق أن ترأس لجنة الموازنة في مجلس النواب، كما ترأس محكمة الحسابات الأميركية. هذا علاوة على خبرته الأكاديمية كأستاذ للسياسات العامة في جامعة "سانتا كلارا"، حيث أسس وأدار مع زوجته سيلفيا "معهد بانيتا للسياسات العامة". وإذا كانت حربَا أفغانستان والعراق تمثلان تحدياً لبانيتا، لاسيما لجهة الخيار بين تغيير الاستراتيجية الحالية والاستمرار عليها، فإن قرار أوباما الرامي إلى تسريع الانسحاب من البلدين، لا يترك هامش مناورة كبير لوزير الدفاع الجديد، وإن كان يسهل عليه معركة الكونجرس إذا ما خرجت الولايات المتحدة من أول حرب تخوضها دون أن تتهيأ لتمويلها، كما قال أوباما مؤخراً. والمتوقع أن ينفذ بانيتا خطط الانسحاب كما رسمها أوباما، حيث يفترض أن ينتهي سحب الجنود الأميركيين من العراق أواخر العام الجاري، وأن يبدأ سحبهم من أفغانستان خلال الصيف الحالي. وليس من المتوقع أن يعارض بانيتان خطط الانسحاب، فهو أول ديمقراطي يتولى حقيبة الدفاع منذ وليام بيري الذي شغلها عام 1997. ومعلوم أن بعض الديمقراطيين كانوا مترددين في تأييد حرب أفغانستان عام 2001، وأن معظمهم تحفظوا على غزو العراق عام 2003. وبالنسبة لبانيتا نفسه فقد كان أحدَ أعضاء "لجنة بيكر- هاميلتون" التي أوصت في عام 2006 بضرورة الانسحاب من العراق. وقبل ذلك كان قد شارك في حرب فيتنام خلال أدائه الخدمة الوطنية بين عامي 1964 و1966، ويتولى حالياً رئاسة "رابطة المقاتلين السابقين في فيتنام"، لذلك فهو دائماً مع أولوية الخروج من الحرب على الاستمرار فيها. أما العمليات العسكرية الأطلسية في ليبيا، فمن غير الواضح ما إذا كان بانيتا سيسعى لاستئنافها بنيل موافقة من أعضاء الكونجرس المحبطين بسبب عدم أخذ رأيهم قبل المشاركة في العمليات. لكن أوباما نفسه يبدو متردداً في المضي نحو استئناف المشاركة، وذلك لخشية الأميركيين من التورط في مغامرة أخرى على غرار المغامرة الأفغانية أو العراقية، وهو هاجس لا يخفى على بانيتا. وقد قام أباما بترشيح بانيتا لحقيبة الدفاع في 28 أبريل الماضي في إطار خطة لإعادة تشكيل مجلس الأمن القومي، تشمل ترشيح الجنرال بترايوس، قائد القوات الأميركية والدولية في أفغانستان، لخلافة بانيتا على رأس الاستخبارات المركزية. وهكذا سيتوجب على بانيتا الذي تولى مناصب رفيعة في واشنطن، وجعلته خبرته الحكومية الطويلة "الرجل المناسب للمكان المناسب"، التصدي للمهام المحلة للقوات الأميركية، في وقت تسعى فيه واشنطن جاهدة لتخطي مناخ مالي صعب للغاية. إنها معادلة المال والحرب في ظرف غير اعتيادي بالنسبة لأميركا؛ ظرفُ تراجعٍ وتقلصٍ وانكماش! محمد ولد المنى