لسبب أو لآخر تميل وسائل الإعلام عادة إلى تضخيم نسبة الخطر المتضمنة في نتائج بعض الدراسات المتعلقة بالأمور الصحية والطبية، ليتحول الخطر شبه المحتمل إلى خطر شبه أكيد. وهذا الاتجاه في الإعلام الطبي تكرر بداية هذا الشهر مع إعلان منظمة الصحة العالمية عن احتمال وجود علاقة بين استخدام الهواتف المتحركة وبين الإصابة بنوع خاص من سرطان المخ، بناء على اجتماع ضم 31 من الخبراء في مدينة "ليون" الفرنسية آخر أيام الشهر الماضي، لمراجعة الأدلة المستقاة من البحوث الإحصائية المتعلقة بهذه العلاقة. وسرعان ما خرجت وسائل الإعلام على صفحاتها الأولى في مختلف دول العالم، بعناوين مثيرة للهلع والفزع، تؤكد على هذه العلاقة، وتنسبها إلى إحدى أشهر المنظمات الصحية الدولية. وعلى رغم أن وسائل الإعلام تلك لم تكذب، ولم تزيف الخبر، أو حتى تضخم من حجم هذه الاحتمالات، إلا أن كثيراً منها قرر تجاهل الجزء الخاص بتقدير حجم الخطر، تاركاً الباب مفتوحاً للتقدير الشخصي. فبداية، تتوفر لخبراء منظمة الصحة العالمية خمس درجات لتقدير احتمالات تسبب مادة ما، أو جهاز، أو سلوك، في الإصابة بالسرطان. وهذه الدرجات الخمس هي: 1- يسبب السرطان. 2- يحتمل أن يسبب السرطان. 3- ربما يسبب السرطان. 4- غير معروف. 5- في الغالب لا يسبب السرطان. وبين هذه الدرجات الخمس، اختار الخبراء المرتبة الثالثة -ربما يسبب السرطان- وهي نفس الدرجة التي تمنح لشرب القهوة، أو استخدام التنظيف بالبخار (الدراي كلين)، وغيرها كثير. وما تعنيه أيضاً هذه الدرجة، هو توفر (بعض) الأدلة التي تربط بين الهواتف المتحركة وبين السرطان، ولكنها أدلة ضعيفة بدرجة لا تسمح باستخلاص استنتاج مؤكد. وحتى إن توفرت هذه الأدلة بدرجة من القوة تثبت تلك العلاقة، فلابد أن تؤخذ في الاعتبار من المنظور الكمي. فنوع سرطان المخ (Glioma) محل الخبر هنا، يصيب في الأحوال العادية واحداً من كل عشرة آلاف شخص على مدار عشرين عاماً، ولذا إذا ما افترضنا أن استخدام الهواتف المتحركة يضاعف من احتمالات الإصابة -وهو غير المعروف أو المؤكد حتى الآن- فسيصاب شخصان من بين كل عشرة آلاف بسرطان المخ على مدار عشرين عاماً، بشرط أن يكون هؤلاء ممن يستخدمون الهاتف المتحرك لفترات طويلة جدّاً يوميّاً لمدة عقدين من الزمان. ولذا يمكن إعادة كتابة الخبر الذي ملأ وسائل الإعلام تحت عناوين مخيفة ومفزعة، وبالبنط العريض، بالشكل التالي "إذا ما استخدم عشرة آلاف شخص هواتفهم المتحركة بشكل يومي مكثف غير عادي، ولمدة عشرين عاماً، فيحتمل، وإن كان ليس بالأكيد، حيث لا تتوفر لنا أدلة قوية أو كافية حتى الآن، أن يصاب اثنان منهم بسرطان المخ، مقابل إصابة شخص واحد فقط من بين عشرة آلاف شخص آخرين لا يستخدمون هاتفهم بشكل مكثف لعقود متتالية". وبناء على هذه الطريقة في عرض الخبر، تتضح لنا قوة هذه العلاقة، وحجم هذا الخطر المزعوم. بل على العكس من ذلك نجد أن الغالبية العظمى من الدراسات لم تجد علاقة موثقة بين الهواتف المتحركة وبين الأمراض السرطانية، وحتى إذا ما كانت هذه العلاقة موجودة فهي في الغالب علاقة غير قوية. فعلى رغم الانتشار الهائل لاستخدام الهواتف المتحركة منذ عقد الثمانينيات، بدرجة جعلت عدد المستخدمين الحاليين يقارب خمسة مليار شخص في مختلف دول وبلدان العالم، إلا أنه خلال كل تلك الفترة، سواء بين المستخدمين العاديين، أو المستخدمين فائقي الاستخدام، لم تلاحظ زيادة في انتشار سرطان المخ عن معدلاته، مقارنة بالفترة السابقة لثورة الهواتف المتحركة. وبخلاف الهواتف المتحركة، يتكرر هذا السيناريو مع العديد من الأخبار المتعلقة بالأمور الطبية، التي تعمد إلى تجاهل جزء من الحقيقة، أو إخفاء جانب من الأرقام والنتائج، لتجعل الخبر أكثر إثارة وجذباً للقراء. كما أن قائمة المواد المتهمة (إعلاميّاً) بالتسبب في السرطان تمتد أحياناً لتطول توابل "الكاري"، والشاي الأخضر، وحتى الزبادي منزوع الدسم. وإن كانت الحقيقة هي أنه من بين أكثر من خمسة ملايين مادة كيميائية، تمت دراسة واختبار تأثير سبعة آلاف فقط منها، وثبت فقط تسبب ثلاثين منها في حدوث السرطان بين البشر. وهو ما يعني أن من بين كل 150 ألف مادة كيميائية يتعرض لها الإنسان، تم حتى الآن إثبات أن واحدة منها فقط تسبب السرطان. والمشكلة أنه في الوقت الذي تتم فيه مناقشة علاقة الزبادي و"الكاري" والهواتف المتحركة بالأمراض السرطانية، يتم تجاهل أسباب ثابتة معروفة وموثقة، مثل التدخين، وعدم الالتزام بغذاء صحي متوازن، وزيادة الوزن والسمنة، وتراجع ممارسة الرياضة وضعف حجم النشاط البدني من الحياة اليومية.