منذ بداية صعوده السريع على الساحة السياسية رسم أوباما صورة لنفسه على أنه شخصية تاريخية متفردة، وبخطابه الأخير حول أفغانستان تحول بالفعل إلى شخصية متفردة، فمن غيره من الرؤساء الأميركيين لجأ إلى استخدام تبرير مستمد من الحياة العامة وبأبعاد سياسية واضحة هي الحاجة إلى "تشييد بنيتنا التحتية" و"إيجاد مصادر جديدة ونظيفة للطاقة" لتفسير خياراته كقائد أعلى للقوات المسلحة؟ ومن غيره من الرؤساء استعمل كلمتي "وفاء" و"الاعتقاد الراسخ" في إشارة إلى مبدأي الإصرار العسكري والشجاعة لإعلان انسحاب متعجل من أفغانستان؟ ومن أيضاً غيره من الرؤساء ادعى تبني "موقف القوة" فيما هو في الحقيقة يشيع انطباعاً لدى الآخرين بالضعف؟ إن هذه الطريقة في تشكيل الخطاب التي يجيدها أوباما ليست جرأة كما يدعي البعض بل هي نوع من المراوغة السياسية. فقد عُرف عن أوباما الغموض والالتباس، لكنه هذه المرة تفوق على نفسه من خلال تأكيده على أسبقية عنصر على آخر في استراتيجية الولايات المتحدة بأفغانستان المتمثلة في محاربة الإرهاب وبالأخص محاربة تنظيم "القاعدة"، ليصبح مقتل بن لادن وكأنه نهاية المطاف بالنسبة لجهود مكافحة الإرهاب، ليطوى بذلك ملف أحد الأهداف الأساسية من الحرب في أفغانستان. ولكن أوباما بقبوله خطة الزيادة في عدد القوات سنة 2009 لم يقتصر على هدف مكافحة الإرهاب كاستراتيجية في أفغانستان، بل أضاف إليها مهمة محاربة التمرد، بحيث رأى القادة العسكريون أن المهمتين غير منفصلتين، ذلك أن استمرار سيطرة "طالبان" على مساحات واسعة من البلاد يفتح المجال أمام التنظيمات الإرهابية لكسب موطئ قدم لها في أفغانستان، وهو ما يعقد المصالح الأميركية في باكستان والمنطقة. ومهما كانت الاختلافات التي نشأت داخل الإدارة الأميركية بشأن الحرب في أفغانستان فإن الأمر بالنسبة للعسكريين كان واضحاً، حيث أكد الضباط الذين تحدثت إليهم في الميدان رغبتهم في استمرار القتال لموسمين أو ثلاثة للتمكن من السيطرة على معاقل "طالبان" في قندهار وهلمند وتوسيع العمليات نحو الشرق ومنح الجيش والشرطة الأفغانيين الوقت الكافي لتطوير قدراتهما، وهو ما يتطلب، حسب العسكريين، إبقاء عدد القوات في المستوى نفسه حتى عام 2014 عندما سيتم نقل المسؤولية الأمنية إلى القيادة الأفغانية، وحينها يمكن للسلطات الأفغانية، أو على الأقل هذا هو ما يؤمل منها، منع سقوط الحكم في أيدي "طالبان"، وحماية المدن الرئيسية، وتسهيل قيام هياكل سياسية محترمة. ولم يكن من أهداف المهمة العسكرية، كما وصف ذلك أوباما في عبارته المردود عليها هدف "إنقاذ أفغانستان"، بل كانت محاولة واقعية للحفاظ على الطابع الإيجابي للنتائج التي حققتها الحرب الصعبة على رغم أنها غير كافية. وهكذا تبدو قيادة أوباما وسياسته في الشأن الأفغاني متأرجحة إلى درجة يصعب حتى تلخيصها، ففي عام 2009، وتحت الضغط العسكري، وافق أوباما على استكمال خطة مكافحة التمرد من خلال إرسال 30 ألف جندي، ولكنه سرعان مع عقد الموقف بوضعه يوليو 2011 كموعد لبدء الانسحاب، باعثاً برسالة مفادها أن التصميم الأميركي مؤقت، وأن الأعداء يمكنهم انتظار مرور الوقت. ثم عاد ليطمئن المتخوفين من أن الانسحاب مرهون بالظروف على أرض الواقع! والحقيقة أن خطة الزيادة في عدد الجنود التي أقرها أوباما قبل سنتين لم تكتمل إلا في شهر أغسطس الماضي، حيث تمكن الجنود وبسرعة من السيطرة على مناطق أساسية في عمق أرض "طالبان". واليوم بعد أقل من عام على اكتمال القوات ها هو أوباما يأمر بـ"استعادة الجنود" بحلول الصيف المقبل، دون رهن ذلك بأية ظروف ميدانية كما ادعى في السابق، وبالطبع استخدم أوباما عبارة "استعادة" المخففة لتفادي كلمة "انسحاب". ومع أن هذا الانسحاب الذي أقره أوباما قد لا يكون قاتلاً بالنسبة لجهود مكافحة التمرد، إلا أنه بالقطع يضعف نتائجه ومفعوله، فبعد خطابه حول أفغانستان لاشك أن أعداءنا هناك تنفسوا الصعداء وشعروا بالراحة فيما اكتأب حلفاؤنا، ذلك أن أوباما فضل اللعب على الحبلين وإمساك العصا من الوسط. وهذا التذبذب في سياسة أوباما اتضح أكثر عندما أمر بالزيادة في عدد الجنود فقط ليعلن سحبها بعد فترة قصيرة على اكتمالها، وإعلانه أن المهمة الأميركية في أفغانستان حيوية للمصالح الأميركية وفي الوقت نفسه التشديد على أنها مكلفة ومرهقة لبلد منشغل بهمومه الداخلية. وإذا نظرنا إليه كخطاب حول الحرب تبدو كلمة أوباما الأخيرة غير مسبوقة فهو يركز على حماية أميركا ثم ينتقل إلى ضرورة تأمين الرخاء الداخلي، مفضلًا طريقاً وسطاً بين مصالح أميركا في الخارج ومصالح المواطنين في الداخل. ولكن بالنظر إلى الصعوبات المرتبطة باتخاذ قرار حاسم وتآكل التأييد الداخلي للحرب لدى الحزبين معاً سيكون على أوباما التحلي بصفات قيادية استثنائية لضمان مخرج مشرف من أفغانستان. بل إن الوصول إلى 2014 الموعد المحدد للانسحاب الكامل يتطلب هو أيضاً المزيد من الإقناع للقوى السياسية الداخلية، وهذا بالتأكيد ما أثر على الرئيس وجعل خطابه الأخير متردداً وخاليّاً من أي مضمون حقيقي. ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"