بعيداً عن الطبول المهللة لقدوم "ربيع الثورات" العربية من جهة، والأخرى التي تنظر بعيون جزعة من جهة مُعاكسة للثورات القائمة على أنها مؤامرات أحيكت بمهارة بأيادٍ غربية! إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الظروف الحرجة التي يمر بها عالمنا العربي: ما الحلول الجذرية التي يجب وضعها كي تتقبّل مجتمعاتنا برحابة صدر التنوّع المذهبي والطائفي دون أن تقوم بتكفير الآخر أو اتهامه بالخيانة العظمى أو الولاء لبلدان أخرى؟! بعد ثورة يناير حدثت كثير من التغييرات في مصر، وكان من ضمنها مطالبة "المجلس الأعلى لرعاية آل البيت" الأزهر من منطلق مكانته الدينية الرفيعة في العالمين العربي والإسلامي، بوجوب تدريس فقه آل البيت فيه، بعد أن تمّ تجاهله سنوات طويلة بسبب المد الديني السلفي، الذي تغلغل في المجتمع المصري. ليس جديداً فكرة التصدّي للمشروع السلفي الذي غزا المجتمعات العربية المعروفة باعتدالها الفكري في العصور السابقة! وقد بدا ذلك جليّاً مع شيوع ظاهرة تكفير الآخر وارتفاع نبرة العنصرية الطائفية والمذهبية في هذه المجتمعات، التي أصبحت هي الأخرى أرضاً خصبة للتعصّب الديني، مما حذا بمفكريها المتنورين وشيوخها المعتدلين إلى الوقوف صفّاً واحداً أمام هذا الفكر المتطرّف، والمناداة بوجوب وضع صيغ فكرية تحث على التقارب بين الأديان والطوائف والمذاهب، حفاظاً على وحدة الأوطان خاصة تلك التي يقوم نسيجها الاجتماعي على التعددية الطائفية والمذهبية والعقائدية. السعودية كذلك حاولت في السنوات الأخيرة تقليص الخلافات الحاصلة بين مواطنيها من السُنة والشيعة، بإقامة حوار وطني دوري، ومن خلال تشريع نوافذ وسائل الإعلام عن آخرها لمناقشة هذا النوع من القضايا الشائكة، وكلها في رأيي حلول سطحية ورؤى ضيقة الأفق لن تُساهم في معالجتها على المدى البعيد! وأن الطريق الأمثل من وجهة نظري لاحتواء هذه المشكلة، يكمن في بناء عقول الأجيال القادمة على الفكر المستنير من خلال النهل من روافد تعليمية جديدة يقوم بوضع مضامينها شيوخ وتربويون متنورون تحترم عقولهم التنوّع الفكري والتباين العقائدي والاختلاف المذهبي. فمن المعروف أن أصحاب الفكر السلفي المتشدد أو الفكر الوهابي كما يُطلقون عليهم داخل السعودية، يتبعون مذهب ابن حنبل، ويؤمنون بأفكار ابن تيمية، ويستبعدون المذهب الحنفي والمالكي والشافعي وفقه الشيعة وسائر المذاهب الفقهية الأخرى، ولا يأخذ القضاة إلا به عند إصدار أحكامهم في ساحة القضاء! عندما كنتُ أدرسُ في جامعة الملك عبد العزيز، لفت انتباهي أن المواد التي كنّا نتعلمها في قسم دراسات إسلامية تتعمّق فقط في دراسة المذهب الحنبلي، وعندما سألتُ الأستاذ الذي كان يقوم بتدريسنا عن المذاهب الأخرى! أجابني بأن لا اعتبار حقيقي للمذاهب الأخرى في المناهج التعليمية داخل السعودية! المفكر المصري طارق حجّي في كتابه (سجون العقل العربي) يقول بأن العقل العربي المعاصر أسير لثلاثة عوامل ساهمت في إبقائه خلف القضبان: أولها فهمه البدائي للدين، وثانيها تعلقه بموروثاته ومفاهيمه الثقافية القائمة على تجربته التاريخية، وثالثها فزعه من الحداثة المعاصرة بحجة الخوف على خصائصه الثقافية من الاختفاء أو التغريب! كل مجتمعات الدنيا تقوم على التنوّع الفكري والاختلاف العقائدي، لذا فقد حان الوقت لفتح الأبواب أمام كافة المدارس الفقهية والمذهبيّة، لأن تكون ضمن مناهجنا الدينية، وإلا فإننا سنساهم بقصد أو من دون قصد في بناء أجيال متطرفة لا تؤمن بالتعددية ولا تعترف بمذهب وعقيدة الآخر، وبالتالي رفضها التام لفكرة التعايش المشترك!