الخلاف الذي تشهده الساحة السياسية المصرية بين أنصار الانتخابات أولاً وأنصار وضع الدستور أولاً ينطوي على ضعف القيم الديمقراطية. وأخشى أن يتحول هذا الضعف لدى القوى السياسية الجديدة إلى موقف استعلاء نخبوي على جماهير الشعب العريضة يؤدي إلى الاستخفاف بإرادتها، لكي نتبين الأمر، علينا أن نتذكر أن هناك استفتاء شعبياً قد أُجري على مجموعة مواد من الدستور القديم لتعديلها، وأن الأغلبية قد أيدت تعديل هذه المواد. لقد كان بينها فقرة أضيفت إلى المادة 189 تنص على إلزام مجلس الشعب الذي يُنتخب بعد الاستفتاء على تشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد. أرجو أن نلاحظ هنا أن غالبية الشعب قد وافق إذن على أن ينتخب مجلس الشعب أولاً ليأتي ثانياً وضع الدستور. اليوم يتجاهل أصحاب دعوة وضع الدستور أولاً نتيجة الاستفتاء، وهنا الخطر الكبير على التجربة الديمقراطية. لقد خرج ملايين المصريون لأول مرة في حماس إلى صناديق الاستفتاء ثقةً في أن تجربة ديمقراطية حقيقية ستنشأ في البلاد، إذن فما معنى أن نأتي اليوم، ونقول للناس إننا لا نعترف بآرائكم، وإننا سنقوم بمظاهرات مليونية يوم الجمعة 7 يوليو تحت شعار "الدستور أولاً". المشكلة الكبرى أن أصحاب هذه الدعوة لا ينتبهون، رغم أصالتهم الثورية، ودورهم الكبير في الثورة أنهم يضربون الديمقراطية في مقتل. شخصياً عبرت عن رأيي في الاستفتاء برفض التعديلات، لأنني أعتقد أن المنطق يقتضي وضع الدستور أولاً باعتباره خريطة البناء الديمقراطي التي يجب أن توضع لتحديد أشكال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وسلطاتها، والعلاقة بينها ولتحديد مبادئ حاكمة لحركة المجتمع. ومع ذلك فإن احترامي لنتيجة الاستفتاء ورأي الأغلبية يتغلب على أفكاري، لأن الأهم الآن هو ألا نضرب إرادة الشعب في مقتل. لقد دعوت في مقال بـ "المصري اليوم" إلى التعلم من تجربة التوافق بين القوى الدينية والقوى العلمانية في إسرائيل. والتأكيد على أن أصول عملية التقارب والتنازلات المتبادلة تأتي لتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والفكرية. لقد شُكلت لجنة لوضع الدستور الإسرائيلي بعد إنشاء إسرائيل عام 1948، وبالطبع وقع الخلاف بين المتدينين الذين يريدون دستوراً على أساس التوراة والشريعة اليهودية وبين العلمانيين الذين يهدفون إلى دستور مدني ديمقراطي. لقد جاء التوافق مع صورة تأجيل لعملية وضع الدستور مع الاستعاضة عن ذلك بوضع مجموعة قوانين أساسية لتنظيم السلطات مثل قانون الحكومة، وقانون الكنيست وما إلى ذلك. إن وجهة نظري تقوم على الانتفاع بفكرة التوافق وليس محاكاة التجربة الإسرائيلية. لقد بدأت تظهر أخيراً محاولات للتقارب وذلك من خلال قيام 18 حزباً مصرياً بالاتفاق على مجموعة مبادئ حاكمة للدستور القادم، بحيث لا ينفرد حزب "الأخوان" في البرلمان بوضع الدستور. أعتقد أنه إذا أمكن الوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لجميع القوى المحتمل تواجدها في مجلس الشعب الجديد بهذه المبادئ الحاكمة، فإن المصريين سيقدمون نموذجاً رائعاً في القدرة على التوافق الديمقراطي لتمضي البلاد إلى الانتخابات أولاً دون خوف من انفراد قوة واحدة بوضع الدستور.