ما قاله الأستاذ "جورج طرابيشي" أمام حضور ندوة "شومان" في عمّان بالأردن عام 1998 عن مصاعب وإشكاليات الديمقراطية صحيح! أما النسبة لمقولة "إصلاح أم ثورة"، فإن "مفهوم الثورة قد وئد وما عاد مكان إلا للإصلاح. والدولة القطرية موجودة ومؤثرة في واقع العالم العربي". أستاذ الفلسفة الأردني د. سلمان البدور أضاف في مداخلته، أن الغالبية العرقية هي إشكالية أخرى لن تجد حلاً في الديمقراطية، مثلها مثل إشكالية الأمية في العالم العربي التي لا أجد لها حلاً، لا بالديمقراطية ولا بغيرها، ولكن "لا يحق لنا، أن نحرم شخصاً لأنه أمي من الإدلاء بصوته.. أما المجتمع المدني في العالم العربي، بالمعنى الحقيقي، فغير موجود، ما هو موجود على الأرض ولاءات". دول وبلدان وأقطار العالم العربي أصبحت حقيقة واقعة، قال المعقب، لا يجب القفز عنها أو تجاوزها، لأنها أصبحت أكثر قوة من ذي قبل بشعوبها وبمن ينتمون إليها القوميون أنفسهم لم يعودوا استثناءً! لا ينبغي الانخداع بمظاهر المجتمع المدني في العالم العربي، في تحليل د. البدور "هناك غرف تجارية، وهناك نقابات، وهناك أحزاب سياسية، وهناك بعض الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، ولكنها كلها تقوم على ولاءات عشائرية أو قبلية أو مذهبية، وهي في أكثرها منغلقة وليست منفتحة، كما استطاعت الأنظمة العربية جميعها أن تسخر هذه الولاءات لصالحها". ياللصورة القاتمة التي يرسمها د. البدور لمؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، ودورها وواقعها بلا ريب أعقد من هذا، وبحاجة إلى مقالات أخرى. نفوذ السلطة في البلدان العربية لا حدود له في اعتقاد المعقب، وكلها دول أو أنظمة متشابهة! "لا تختلف الأنظمة العربية في سلطويتها من حيث النوع، لكنها تختلف في الدرجة: بعضها سلطوي جداً جداً إلى حد القمع، وبعضها أقل سلطوية، حتى مؤسسات المجتمع المدني أصبحت لدينا مؤسسات لإحكام السلطة لا لتبادل السلطة، مثل الاتحادات.. من يدخلها؟ من يجرؤ أن يدخلها سوى من كان منتمياً إلى حزب السلطة. النظم الحاكمة لها ارتباطات وثيقة مع النخبة والجماعات وحتى الفرق والمذاهب والعائلات والقبائل". ونود أن نتوقف قليلاً عند تأثير انتشار الأمية على عدم صلاحية أو نجاح الديمقراطية في العالم العربي، كما ذهب كل من المتحدثين طرابيشي والبدور. فالهند مثلاً توصف بأنها أكبر دولة ديمقراطية في العالم، بينما نسبة الأمية فيها عالية جداً. إحصائية عام 2001 تقول إن نسبة المتعلمين في الهند 60.4 في المئة – 75.7 في المئة رجال، و 43.9 في المئة نساء. ولا تقارن الديمقراطية في إندونيسيا بالهند، رغم أن نسبة الأمية أقل بكثير فيها من الثانية. إحصائية عام 2002 تقول إن المتعلمين فيها 87.9 في المئة – 92.5 في المئة رجال و 83.4 في المئة نساء. والديمقراطية في البرازيل ليست بثباتها في الهند، ورغم ذلك فإن نسبة المتعلمين فيها عام 2003 كانت 88.4 في المئة . أما عن بعض بلدان العالم العربي الرئيسية، فنجد أن نسبة غير الأميين في مصر مثلاً، بموجب إحصائية 2001، تبلغ 65.1 في المئة – 67.1 في المئة رجال، و 44.8 في المئة نساء، أي أنها أعلى من نسب الرجال والنساء معاً في الهند! وإحصائيات سوريا حول الأمية عام 2003 تظهر بأن نسبة المتعلمين 82.9 في المئة – 91 في المئة رجال، 74.2 في المئة نساء، أي أعلى من نسب الهند بكثير. فهل تدعم حجة انتشار الأمية عدم صلاحية العالم العربي للديمقراطية؟ ولا يعني هذا بالطبع إلغاء كل علاقة بين مدى انتشار التعليم في أي دولة من جانب، ونجاح الديمقراطية فيها، حيث أكدت الكثير من التحليلات التاريخية والسياسية مثل هذه العلاقة. ففي كتابه عن تاريخ أوروبا المعاصرة Contemprory Europe، يلاحظ ستيوارت هيوز، انتشار التعليم الإلزامي العام في أقطار أوروبا الغربية مع حلول القرن العشرين، بما في ذلك سويسرا والدول الاسكندنافية، التي زالت فيها الأمية تماماً فيما تخلفت إيطاليا وإمبراطورية النمسا والمجر في هذا المجال، وبقيت الأمية شائعة في إسبانيا والبرتغال ودول البلقان وروسيا القيصرية. وهي نفسها كذلك الدول، التي كانت قد حققت تقدماً بسيطاً باتجاه الديمقراطية مما يدل على ارتباط التعليم بها. ونحن نعلم أن هذه الأقطار التي تخلف فيها التعليم العام كإسبانيا ودول البلقان وروسيا، شهدت الكثير من تجارب الاستبداد والديكتاتورية والظروف القاسية على امتداد القرن المنصرم. وينبغي بلا شك أن تدرس هذه العلاقة في التجارب الآسيوية وبخاصة اليابان وكوريا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، ودول أفريقيا وأميركا اللاتينية للتوصل على نتائج عامة. كانت المداخلة الثانية للدكتور سلمان مخادمة، الذي أعلن أنه قد ضاق ذرعاً بالحجج التي تساق في العالم العربي ضد تقبل الديمقراطية، واشتراط وجود ظروف معينة، "فإلى متى نظل ننتظر نضوج هذه الشروط لكي نمارس حقنا في الاختلاف؟" وانتقد عدم اهتمام الثقافة المجتمعية العربية بشخصية الفرد العربي، حيث نراه في الغالب يتبع قبيلته وعشيرته، "لأنه ينتمي إليها، فهي وطنه وإذا خرج منها مات وحيداً!" وشبه الحال بنجاح النازية في ألمانيا، وتعثر الديمقراطية في ألمانيا مقارنة بالولايات المتحدة وفرنسا، وقال "إن تركيب الأسرة البروسية - نسبة إلى بروسيا، وهي ألمانيا سابقاً - تسمح بولادة الديكتاتور مرة أخرى، لأنها تغِّيب الفرد، ونحن ما زلنا نعيش في مجتمع يغيب الفرد، الفرد المواطن". وأشاد د. مخادمة إلى وضع المثقف في العالم العربي قائلاً: "لا يفترض بالمثقف أن يقود الجماهير. هذه مهمة السياسي ومهمة الذي يقدم نفسه باعتباره وحيداً، ونحن كديمقراطيين لا نحب أن نكون أوصياء على ما هو أكثر من أنفسنا فقط". وقال إن المثقف في أوروبا يمتلك هامشاً كبيراً من الاستقلالية، "لكن المثقف في العالم الثالث لا يملك أبداً هذا الهامش لكي يقول كلمته ولكي يكون إنساناً ناقداً". وتتيح هذه الملاحظة المجال لأن نسأل سؤالاً لا نملك مجالاً واسعاً للإجابة عنه، وهو: هل خدم المثقف العربي نمو وانتشار الديمقراطية، أم كان في الواقع مبشراً بالأفكار والعقائد الشمولية والديكتاتورية؟ كانت المداخلة الثالثة للأستاذ مؤنس الرزاز، فتساءل في البداية: "هل نستطيع أن نطبق الديمقراطية بمفهومها المعاصر على مجتمعات ذات عقلية رعوية وفي أحسن الحالات رعوية زراعية؟ لنغسل أيدينا من الأنظمة الديكتاتورية، ولنأخذ الحالات التي تتوفر على ديمقراطية ذات طابع عربي. لنأخذ الأردن، اليمن، لبنان، وحتى فلسطين عام 48، سنجد أن العصبية هي التي تتحكم في الانتخابات.. إما عصبية طائفية وإما عصبية عشائرية، وإما عصبية جهوية"، حتى فلسطينيو 48، تحت الاحتلال في الانتخابات البلدية تقع معارك ومشاجرات عائلية بينهم. وأضاف "الغريب أنك إذا نظرت إلى الإقليم ستجد أن تركيا العلمانية فيها تداول للسلطة، وباستثناء لبنان لا يوجد تداول في الوطن العربي. إنني أدعو في هذه المرحلة إلى أن نعطي للديمقراطية مدى طويلاً جداً كي تتطور، فالديمقراطية الأوروبية أخذت مدى طويلاً...ما نستطيع أن نفعله الآن هو التركيز على قضية حقوق الإنسان. ما يوجد في بعض الدول العربية هو تسامح، والديمقراطية ما زالت في طورها الجنيني. على المدى القريب ينبغي لنا التركيز على حقوق الإنسان". أما ا طرابيشي، فقد واصل تشاؤمه حول الحاضر والمستقبل: "ما أريده من الديمقراطية أن تكون فعلاً للنخبة، وفي المحصلة لا يسعد بفرنسا ولا بأميركا إلا النخب، نادراً ما يصعد غير النخب. ما جرى في العالم العربي، أن كل نخبة تصعد باسم حزب، باسم فئة، باسم دين، باسم طائفة، وأول ما تقوم به هو أنها تبيد النخب القائمة. الديمقراطية عندي ليست صناديق الاقتراع. الصندوق الأول عندي هو جمجمة الرأس"!