كانت النظرة إلى لبنان في العالم العربي أنه البلد النموذج، البلد الجذّاب الاستثنائي. واحة حرية وديموقراطية وتنوع وخدمات وانفتاح وتعددية وحوار وتفاعل بين الثقافات والحضارات، وحاضن للأنشطة الفنية كما للمناضلين والقادة الكبار، ومناصر لقضايا الشعوب، وفيه قوى سياسية حية، ونظام أحزاب متطور. كانت النظرة إلى لبنان أنه البلد الذي يقاوم المحظورات التقليدية. فيه من المرونة والليونة في التعاطي ما لا تجده في أي بلد آخر. وفيه من الحرية الإعلامية ما كان يقضّ مضاجع كثيرين حوله وما يستهوي الناس عندهم في آنٍ معاً. وفيه من المرونة المالية والاقتصادية والإدارية في نظامه المصرفي ما يسّهل ويجذب الاستثمارات ويشكل ضماناً لأصحابها. وهو في الوقت ذاته صلة العرب مع العالم ونافذتهم عليه في السياسة، كما في الإعلام والثقافة والمال وغير ذلك. إضافة إلى أنه كان من خلال مؤسساته التربوية المستوعب والمخرج لآلاف من الطلاب العرب الذين خرج منهم قادة كبار في المنطقة. وتميز بنظام تربوي ممتاز قياساً على ما كان حوله، إضافة إلى الجانب الاستشفائي، حيث كان لبنان مستشفى المنطقة العربية. نعم، كان صوت المنطقة وكلمتها الحرة، وصحافتها المميزة، وقطاعها المصرفي الأهم، وجامعاتها الأهم... هذا كان... وكان معه الكثير. وكان العالم العربي غارقاً في مشاكل كثيرة. لا حرية. لاديموقراطية. لا تنوع. لا حركة مصرفية. ولاتنمية ولامؤسسات ولا... اليوم، يشهد العالم العربي فورات. وتسمع هتافات وشعارات ومطالبات بالإصلاح. وفي معزل عن التحليلات التي تحصر ما يجري في خانة المؤامرة فقط - ولست من أنصار هذا الرأي – أو التي تبسطها وتعتبرها عرضية، فإن صوتاً واحداً يرتفع: الحرية – العدالة – لا للسجن – لا للكبت – لا للقمع. نعم للإصلاح. نعم لمكافحة الفساد، نعم للانفتاح. نعم للتطوير. نعم للديموقراطية. نعم لمكافحة الفقر. نعم لمكافحة الأمية. نعم لتوفير فرص عمل ومواجهة مسألة الازدياد السّكاني الخطيرة... إذاً، بعيداً عن الخلفيات، كل ما يجري يهدف بطريقة أو بأخرى إلى تحويل الأنظمة القائمة على الساحات المختلفة إلى أنظمة شبيهة بما كان عليه النظام اللبناني. ولذلك ذهب كثير من اللبنانيين إلى القول إن ربيع العرب المفتوح بدأ من ربيع لبنان! نحن أصحاب التجربة والفكرة والرواد. جيد. هذا أمر ممتاز أن يقتدي الناس بنا. لكن المؤلم المؤسف هو أن الحقيقة اليوم جارحة وعكس ما نتمناه. فإذا كان العرب يتوقون إلى أن يكون عندهم ما كان عندنا في لبنان، ويتقدمون نحو العناصر المكونة لحياتنا السياسية المميزة، فإننا هنا نتراجع. هم يريدون أن يصبحوا مثلنا. ونحن ربما عن غير قصد أو إدراك نسير في الطريق لنتحول ونصبح مثلهم... نعم، هذه هي الحقيقة. كثيرة هي الحرية عندنا، وقليلة هي الممارسة الديموقراطية. وإذا مارسنا الحرية، فإنما بالشتم والاتهام والتخوين والتهديد والوعيد. وليس ثمة حياة سياسية منتظمة في مؤسسات سياسية فاعلة مؤثرة طليعتها الأحزاب وحركات الشباب والأندية الفكرية والثقافية الموجودة بوفرة، لكنها لا تلبي الغرض المطلوب، ولذلك نشهد حالة تراجع على كل المستويات. لقد تغيّر لبنان. تأثر بالحروب المتتالية، الداخلية والخارجية، والتي أنهكته وأفقدته الكثير من الميّزات. وخلقت طبقة سياسية جديدة لا تتمتع بالكاريزما والمعرفة والخبرة والمهنية الكافية. تراجع الأداء وتراجعت الأدوار. وقلة قليلة من السياسيين حفظت لنفسها تألقاً مهنياً وحرفياً في الحياة السياسية اليومية. تغيرت عاداتنا ومفاهيمنا وتقاليدنا وأنماطنا ولكننا لا نزال ندّعي أننا الأفضل والأقدر، ونحن ذهبنا فيما وصلنا إليه من تخلفّ إلى حد التدمير الذاتي لكل شيء فينا من طاقات وإمكانات ولكل شيء عندنا من قيم ومؤسسات. انحدر مستوى الحياة السياسية، ومستوى اللعبة السياسية، ومستوى السياسيين مع الاحترام والتقدير لمعظم الذين يتعاطون السياسة. لقد فوتنا على حالنا فرصاً كثيرة. كان يمكن الاستفادة منها لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية تعزز وحدتنا الوطنية وتثبت أسس نظامنا الديموقراطي، وتطوره نحو الأفضل وتفتح الباب أمام النخب والطاقات أن تلعب دورها مع المحافظة على التوازنات الطائفية القائمة والتي من داخل مكوناتها يمكننا، بل يجب علينا اختيار الأفضل والأكفأ لخدمة لبنان واللبنانيين. ليست هذه مقالة نعي لدور لبنان وميزاته بقدر ما هي تعبير عن حقيقة قائمة لا تفقدنا الأمل، تضعفه صحيح لكن لا تفقدنا إياه. ولو كنا يائسين لما كنا في العمل الذي نحن فيه. بالعكس هذه قراءة مؤلمة لواقع صحيح ينبغي تغييره، لكي نعزز حضور لبنان ودوره ونزرع أملاً في نفوس أجياله الطالعة. وما عزز صورة هذا الواقع، هو الانقسام المذهبي الخطير والاصطفافات السياسية القائمة على أساسه والخوف من كل قرار أو موقف أو خطوة والتعامل معها انطلاقاً من مدى انعكاسها السلبي وتأثيرها في هذا المجال. كذلك فإن ما رافق عملية تشكيل الحكومة، والآلام التي تحمّلها اللبنانيون ليصلوا إلى حكومة لم تشكل بالنسبة إليهم الصدمة التي كانوا ينتظرونها أو الخطوة التي كانوا يأملون الوصول إليها بعد طول انتظار وحجم الخلافات والتحديات التي ظهرت. ومع ذلك، فإن تشكيل الحكومة أفضل من عدم وجودها. علّنا نستفيد منها جميعاً، لتكون لنا مرجعية تحفظ مؤسسات الدولة تضعها في خدمة أبنائها، لنتفرغ إلى حوار حقيقي جدي نبحث فيه جميعاً عن ربيع لبنان المتجدّد الملاقي لتطلعات شعوب الدول الشقيقة من حولنا.