الثقافة الوطنية هي المكون الرئيسي لمزاج أي شعب يستمد منها تصوراته للعالم وبواعثه على السلوك، تظهر سماتها في الأفراد وفي الشعوب على حد سواء، في الوعي الفردي والوعي الاجتماعي والتاريخي. وقد حاول البعض ربط الثقافات الوطنية بأنماط الروح الإنسانية وبنماذج مسبقة تتحكم في بنيتها. فهناك روح "أبوللو" العاقل في مقابل روح "ديونيزيوس" الانفعالي، كما هو معروف عند نيتشه. ومع ذلك فهي تعبير عن أمزجة الشعوب وطبائعها وتاريخها على نحو استنباطي أولي. وقد يسميها البعض الثقافة "القومية" بدلًا من "الوطنية"، وهي أيضاً تسمية صحيحة. فارتباط الثقافة بالوطن ارتباطها بالقوم. إذ لا وطن بلا قوم، ولا قوم بلا وطن. وسيرد اللفظان مترادفين. إلا أن لفظ "القومية" قد يدل على مذهب معين للقوميين، في حين أن لفظ " الوطنية " يشارك فيه الوطنيون جميعاً قوميين أو ليبراليين، ماركسيين أو إسلاميين. وتتكون الثقافة الوطنية من عناصر عديدة في مقدمتها الدين والتراث الديني والِحكم والأمثال العامية، وسير الإبطال والملاحم الشعبية وشواهد من تاريخ البطولة وحكمة الشعوب. فما زال الدين أهم روافدها لا العلم، ولا التقنية ولا التصنيع، ولا حتى الإصلاحات الاجتماعية والإنجازات الثورية والخدمات العامة الأخيرة. والتراث مخزون نفسي في ثقافة الجماهير، لا يختلف في ذلك التراث الإسلامي عن التراث المسيحي أو اليهودي. فهناك الدين الشعبي، الدين الإشراقي الشعائري، كأساس واحد ومنبع متصل لها. أما الوافد المعاصر من مظاهر الحداثة كالعلم والتقنية والتصنيع وأساليب الحياة الحديثة، فهي حديثة العهد على الثقافة الوطنية، محاصرة في طبقة محددة، وإن اتسع أثرها في باقي الطبقات الشعبية بعد هجرة العمالة المصرية إلى الخارج وزيادة قدرتها على الشراء بعد العودة خاصة فيما يتعلق بالأجهزة الكهربائية الحديثة. ويحدث ذلك أثراً مضادّاً تحت وطأة التغريب، برفع الثقافة الوطنية نحو رافدها الأول وهو الدين الموروث. وبالإضافة إلى هذين المصدرين الرئيسيين للثقافة الوطنية، الموروث والوافد، هناك أيضاً الواقع المباشر الذي منه نشأت بتشابكه، وتضارب مصالحه، واختلاف طبقاته، وصراع قواه. الثقافة الوطنية إذن على مفترق طرق ثلاثة: الموروث الديني، والوافد العلماني، والواقع الحي المباشر. وإن إعادة بناء الثقافة الوطنية في البلاد النامية تحل إشكالها الرئيسي، وهو ازدواجية الثقافة بين المحافظة الموروثة والعلمانية الوافدة ثم انعزال كل منهما عن الواقع الحي للناس، لمصلحة الجماهير وتحديات العصر. وهي أساس التحديث الشامل سواء التغير الاجتماعي، أو نقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى. إن إعادة بناء الثقافة الوطنية هي جزء من تحديث المجتمعات وضمان لاستمرار ثورتها حتى لا تصاب بالردة أو النكوص، أو الانقلاب إلى ثورة مضادة. ما أصعب وما أطول من تغيير المجتمعات بإعادة بناء الثقافة الوطنية، بحيث تكون هي الضامنة والحارسة لاستمرار الثورة والإبقاء على التغييرات الاجتماعية ومكاسب الثورة حتى لو تغيرت القيادة الثورية. وتلك أهم قضية لدى الشعوب النامية على خلاف الحال لدى الشعوب المتقدمة. فما زالت الشعوب النامية تمر بمرحلة انتقال من التقليد إلى الحداثة، من القديم إلى الجديد، من التراث إلى المعاصرة. ومازال الاختيار لم يحسم بعد بين كافة البدائل: القطع مع القديم باسم الجديد، ورفض الجديد دفاعاً عن القديم، والجمع بين الاثنين عن طريق التجاور والتمييز بين المستويين، والجمع بين الاثنين عن طريق تطوير القديم من داخله بأساليب الحداثة المطوية فيه. وهو النمط المطروح أمامها الذي يلاقي موافقة الأغلبية، نمط "التغيير من خلال التواصل". أما النموذج الغربي، فإنه يقوم على الانقطاع بين التراث والتجديد، بين التقاليد والتحرر، بين القديم والجديد، وبقدر ما يتم نقد القديم ورفضه يتم التحرر منه وإبداع الجديد، وبقدر ما يتم التخلص من التراث والافتكاك من إساره يتم إطلاق قيد العقل وممارسة حرية الفكر واستقلاله، وبقدر التخلص من اللاهوت القديم يتم اكتشاف الطبيعة والإنسان، وبقدر ما يتم الخلاص من المعارف الإلهية المعطاة سلفاً تتم الثقة بالعقل وبقدرته على اكتشاف مناهج جديدة، توصله إلى العلم، وتساعده على كشف الحقائق. وبقدر ما يتخلص من الشرائع الكنسية وسلطانها يتم اكتشاف الشرائع الإنسانية والقانون الوضعي. والثقافة الوطنية هي الأساس الذي منه تخرج الإيديولوجيات السياسية. وإن أي أيديولوجية سياسية ترد من خارج الثقافة الوطنية يسهل حصارها وعزلها، ثم استبعادها. وقد استطاعت الثقافة الوطنية كأي إيديولوجيات سياسية وهويات قومية تثوير الشعوب. فقد كان الأدب الروسي هو الوعاء الذي منه خرجت الثورة الروسية، وكانت دوماً حلقات الأدباء نواة تخرج منها حلقات الثوار. كما كانت الثورة الفرنسية ابنة حركة التنوير. وكانت الثورة الأميركية امتداداً للتنوير الفرنسي والتنوير الأميركي عند "توماس بين". وقد استطاعت الثقافة الوطنية في تاريخنا الحديث أن تكون المهد الذي منه خرجت حركاتنا الإصلاحية وثوراتنا الحديثة. الثقافة الوطنية هي جمع بين العلم والمواطنة، وهما شرطان لتقدم كل شعب. فلا علم بلا التزام قومي، ولا التزام قومي بلا علم. وإذا كانت الثقافة الوطنية تشمل كل "البناء القومي" من قيم وسلوك، فإنها تكوّن مزاج الفرد وروح الشعب وتراث التاريخ. وبصرف النظر عن المدارس السلوكية ومدى إبرازها عامل الثقافات في سلوك الأفراد والجماعات، فإنه مما لاشك فيه أن الثقافة هي أحد مكونات السلوك. وليست المسألة فقهية صرفة ومماحكات نظرية لا حل لها، فيها قولان، ولا مخرج منهما: أيهما أسبق البناء التحتي أم البناء الفوقي؟ أيهما علة وأيهما معلول؟ إن وضع الإشكال على هذا النحو من أجل حل أحادي الطرف وضع غير علمي وحل غير علمي، خاضع لعقلية الثنائية المتعارضة التي سادت الوعي الأوروبي، تجزئة الحقيقة الواحدة إلى عدة عوامل متنافرة متضاربة ثم رد الكل إلى أحد أجزائه. إن الواقع كل متشابك، جدل بين العلل، أثر متبادل بين البنيتين. وهو ما يؤكده التفسير الجدلي. ويتم الجدل بين البنيتين في طرف ثالث، وهو الشعور الفردي والجماعي، الوعي الإنساني والحضاري. ومن هنا تأتي أهمية ظاهريات هيجل وظاهريات هوسرل. والثقافة الوطنية ليست وحدها متجانسة تعبر عن نسق واحد، عن مذهب محكم، بل قد تضم مكونات عديدة متنافرة ومتناقضة، بل الإيجاب والسلب، فيها الأمثال العامية والحكم الشعبية، بل والعقائد المذهبية التي تحث على العمل والجهد، وترفض الظلم والقمع والاستكانة والخنوع، وفيها أمثلة مضادة تدعو إلى ترك الأمور تسيّرها المقادير، وإلى الاستسلام للمكتوب. ويرجع هذا التناقض إلى أن مكونات الثقافة الوطنية إفراز لعديد من الظروف المتباينة، وتعبير عن كافة الطبقات الاجتماعية بمصالحها المتعارضة. ويكون التحدي الأعظم هو كيف يمكن تحييد الجوانب السلبية. وأخيراً، تعبر الثقافات الوطنية عن خصوصيات الشعوب ضد ما يسمى بالثقافة العالمية التي غالباً ما تكون في العادة الثقافة الغربية، وضد شمولية العلم الذي هو في العادة أيضاً العلم الغربي نظراً لأن الثقافة المعاصرة والعلم الحديث قد ظهرا في عصر الريادة الأوروبية في القرون الخمسة الأخيرة. وبالتالي فهي قادرة على حماية الشعوب من هيمنة ثقافة على أخرى. إن الثقافة الواحدة الشاملة، والعلم الواحد الشامل، إنما هو أسطورة تروجها الثقافة الرائدة والعلم الحديث من أجل الهيمنة الثقافية، ونقل العلم من المركز إلى المحيط. كل ثقافة هي ثقافة محلية بالضرورة. وكل علم هو أيضاً محلي بالضرورة نظراً لأن العلم هو أحد الأنشطة الذهنية، يعكس البنية الثقافية للحضارة التي ينشأ فيها هذا العلم. إن خصوصيات الثقافة الوطنية لا تعني وجود جزر منعزلة دون رابط بينها أو اتصال. فهناك الترجمة والنقل بين الثقافات، وتبادل الألفاظ واستعارتها، وإكمال المعاني ورؤية الأشياء. وقد حدث ذلك بين الثقافة الإسلامية والثقافة اليونانية والفارسية والهندية القديمة. كما أن تشابه الأمثال العامية، وترادف حكمة الشعوب التي تخترق كل الثقافات، مما يدل على وجود طبيعة بشرية واحدة وراء الرصيد الإنساني المشترك. هناك إذن مستويات للروابط بين الثقافات: مستوى المعاني والماهيات عن طريق الترجمة والنقل والتبادل الحضاري، ومستوى التجارب البشرية المشتركة ووحدة الطبيعة الإنسانية وتجانسها عبر الزمان.