ألقى ملك المغرب الملك محمد السادس يوم 17 من هذا الشهر خطاباً تاريخيّاً بكل المقاييس، فالملك محمد لم يلق خطاباً عاديّاً، بل دشن مرحلة مهمة في تاريخ المغرب الغربي، وليس من المبالغة القول إنه وضع حجر أساس لتطور النظام السياسي العربي الوراثي بشكل عام. جوهر الخطاب تسليم السلطة للشعب المغربي على قواعد وأسس حديثة للملكية الدستورية، تأخذ في اعتبارها الدين والتراث والقواعد الدولية في الحكم الرشيد، وترسخ لبناء إنسانٍ لآدميته قيمة، ولرأيه أهمية، ولمستقبله أمل، ولحاضره استقرار وتطور. جاء الخطاب تجاوباً مع مطالب شعبية، ومع تغيرات إقليمية وعربية ودولية، وتلبية لحاجات ومعطيات متغيرة، وألقاه الملك بلغة واثقة ومتواضعة في الوقت نفسه، حيث خلا من الشتيمة والاستهزاء، وتجنب الغطرسة والتعالي، وعكس نبرة واقعية، واحتوى عبارات الثقة والصدق بما يعكس الإيمان العميق بالتحولات التي تضمنها الخطاب. وعلى عكس الديكتاتوريات العربية، وعلى النقيض من لغة التهديد والوعيد، وبكل تواضع واحترام لشعبه، جاء الخطاب ليقول إنه ترجمة لمطالب الناس، ولم يتعالً بالقول إن مثل هذه الإصلاحات كانت جاهزة، وبأنها لم تأتِ بضغط من أحد، وبأنه كان ينوي القيام بها منذ سنين طويلة، فذاك أمر لا سياق له، ومسألة لا حاجة للتطرق لها أصلًا، فالملك أطلق الإصلاحات التاريخية انعكاساً لفهمه للمتغيرات، وترجمة لمطالب شعب يقدرها رأس السلطة في المغرب ويفهمها ويتفهمها في الوقت المناسب، وبالتوقيت الأمثل. كان خطاب الملك "كلام ملوك، لا يعاد"، ولا يقبل التكرار السمج، والتنطع بعبارات "الثورجية" الفوضوية، ويخالف الخطب العنترية المتعالية التي يلقيها ديكتاتوريو "العربجة" في كل زمان ومكان. لم يشتم الملك أحداً، ولم ينعت أحداً من شعبه بالخيانة، لم يقل إن من خرجوا في مظاهرات بمدن المغرب، هم مجموعة من المندسين، ولم يتهمهم بأنهم إرهابيون وعملاء لمخططات خارجية، ولم يصفهم بالتبعية لـ"القاعدة" ولا بالضلوع في مؤامرة، ولم يشبههم بالجراثيم، ولا بالمهلوسين. لم يطلق خطبة أقرب ما تكون إلى الصراخ والشتيمة، ولم يتساءل في خطبته عمن خرج للتظاهر: من أنتم؟ فهو يعرف شعبه معرفة جيدة، ويعرفه شعبه تمام المعرفة. لم ينتظر ثلاثة وعشرين عاماً كي يقول لشعبه إنه فهمهم، ولم يحكم شعبه أربعين سنة ليتساءل بعدها: "من أنتم؟"، ولم يستغرق خمسين عاماً ليعرف أن شعبه ليسوا مندسين وعملاء وجراثيم. التحولات التي أطلقها الملك، تعطي الشعب صلاحيات كاملة في سَن القوانين والتشريعات عن طريق برلمان منتخب، وتبقي للملك رمزية مرجعية كحكم يقود مسيرة الملكية الدستورية، ويحل ما قد ينشب من خلافات بين السلطات المختلفة. قبل خطاب الملك، لم يكن المغرب دولة بطش عبثية، ولم تكن ديكتاتورية دموية، ولكنها -وللحقيقة والموضوعية- لم تكن ملكية دستورية، وخرجت بها مظاهرات في مدن عديدة، تطالب بالإصلاح وتعزيز المشاركة الشعبية ومحاربة الفساد وخلق فرص للعمل، لكنها لم ترفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، بل تمحورت شعاراتها حول "الشعب يريد إصلاح النظام"، وذلك لقناعة ذاتية بأن النظام المغربي الملكي ضمانة للاستقرار، ومحور ارتكاز لأي إصلاح، ويقف من جميع فئات الشعب المغربي على مسافة واحدة. مثله في ذلك كأي نظام وراثي عربي بدول الخليج الست، بالإضافة للأردن، حيث تمثل الأنظمة الوراثية الحاكمة، عامل استقرار يتم تأكيده مع أي مطالبة للإصلاح، فلا إصلاح بلا استقرار، ولا إصلاح بالفوضى والدخول إلى المجهول. لقد شكل خطاب الملك محمد السادس علامة فارقة في تاريخ المغرب العربي بشكل خاص، والتاريخ العربي بشكل عام، ومثل قفزة إلى الأمام يستحيل التراجع عنها.