تبلغ نفقات الحرب الأميركية في أفغانستان ملياري دولار في الأسبوع. ولقد تجاوزت الحرب حتى الآن العشر سنوات. ومن المقرر أن تسحب الولايات المتحدة قواتها وأن ينهي حلف شمال الأطلسي عملياته العسكرية في أفغانستان في عام 2014. إلا أن الانتخابات الرئاسية الأميركية ستجري في عام 2012، أي قبل ذلك بعامين، وهو أمر ينعكس سلباً على حملة أوباما لتجديد ولايته مدة أربع سنوات ثانية. وكان في اعتقاد أوباما أن زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان من شأنه أن يعجل بإنهاء هذه الحرب. ولذلك، وخلافاً لنصائح كبار مستشاريه السياسيين والعسكريين، أضاف إلى هذه القوات في عام 2009 ثلاثين ألف جندي. ولم يتردد عندما مُنح جائزة نوبل للسلام في ذلك العام في أن يعلن أن ثمة حرباً مبررة، وأن الحرب في أفغانستان تقع في هذا الإطار التبريري سياسيّاً وأخلاقيّاً. غير أن حسابات أوباما جاءت مخيبة للآمال، فالزيادة لم تنهِ الحرب، والأخطاء التي ارتكبتها القوات الأميركية بقصف القرى الأفغانية وتقتيل المدنيين أثبتت مرة أخرى لا أخلاقيتها. ومن أجل ذلك حاول تمرير قرار في مجلس النواب الأميركي لتسريع الانسحاب وإجراء مباحثات للتسوية مع حركة "طالبان". وعندما جرى التصويت على مشروع القرار في 26 مايو الماضي، مني أوباما بهزيمة كبيرة. فقد صوّت إلى جانب المشروع 204 أعضاء، وهو عدد كبير بلاشك. أما الذين صوّتوا ضده فقد بلغ عددهم 215 عضواً. ولا تعني هذه النتيجة أن الأميركيين يريدون استمرار الحرب، ولكنها تعني أمرين، الأول: أن الحزب "الجمهوري" لا يريد أن يقدم هدية مجانية للرئيس "الديمقراطي" أوباما عشية الانتخابات الرئاسية، ولذلك صوّت ضد المشروع. أما الأمر الثاني فهو: أن ثمة قلقاً لدى الحزبيْن "الجمهوري" و"الديمقراطي" معاً من أن اتخاذ قرار من هذا النوع، وفي هذا الوقت وبهذه السرعة، ربما يوحي لحركة "طالبان" بأن الولايات المتحدة قد تعبت من الحرب، وأنها تريد الانسحاب بأي ثمن. لقد خسرت الولايات المتحدة في أفغانستان حتى اليوم 1500 قتيل و11500 جريح، وذلك على رغم أن عدد القوات الأميركية لا يزيد على 100 ألف. وهذا يعني أن أفغانستان بدأت تتحول إلى فيتنام ثانية ولو على نطاق أصغر. ثم إن ما أنفق على هذه الحرب الأفغانية بلغ حتى الآن 420 مليار دولار. وتقدر نفقات هذه الحرب المتبقية حتى نهايتها المقررة في عام 2014 بـ 220 مليار دولار أخرى. وإضافة إلى ذلك، من المفترض أن تنفق الولايات المتحدة 40.8 مليار دولار لدعم الجيش الأفغاني الذي سيحلّ محلّ القوات الأميركية، ويبلغ عدده الآن 350 ألف رجل وذلك حتى نهاية عام 2012. علماً بأن الاقتصاد الأميركي يعاني من الهزال والعجز، وقد بلغ الدَّين الخارجي أرقاماً قياسية لم يسبق أن بلغها من قبل. لقد أدى قتل بن لادن إلى تصارع وجهتي نظر داخل الإدارة الأميركية. تقول الأولى إن التخلص من بن لادن أربك حركة "طالبان" وشل فعاليتها، وإنه رفع من معنويات القوات الأميركية والأطلسية. وإن ذلك يشكل في حد ذاته فرصة ذهبية للانقضاض على الحركة وتوجيه ضربة قاصمة لها. وتقول وجهة النظر الثانية إن موت بن لادن حرر حركة "طالبان" من سيطرته وفتح آفاقاً أوسع للتحاور معها حول التسوية. وبما أن الحسم العسكري في أفغانستان أمر متعذر ومستحيل في ضوء التجربة البريطانية في القرن التاسع عشر، والتجربة السوفييتية في القرن العشرين، فإن الحل السياسي في ضوء التجربة الأميركية في فيتنام من شأنه أن يختصر الزمن، ويقلل من حجم الخسائر، وأن يوفر مخرجاً يحفظ ماء الوجه. ولعل وجهتي النظر هاتين انعكستا على نتائج التصويت في البرلمان الأميركي. فالولايات المتحدة تدرك أن التسوية مع "طالبان" تعني عودة "طالبان" إلى السلطة. وأن هذه العودة وإن اتخذت شكل المشاركة مع الحكم القائم حاليّاً بزعامة كرزاي، فإنها عمليّاً ستؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى استعادة قبضتها على السلطة. وهذا يعني تقديم نصر مجاني لـ"طالبان"، الأمر الذي من شأنه أن يلهب حماس الحركات الجهادية الإسلامية في العالم المعادية للولايات المتحدة، وأن يرفع من معنوياتها. ثم إن هذا الاحتمال المرجح يطرح علامة استفهام كبيرة في كل من الدول الثلاث المجاورة لأفغانستان وهي روسيا والصين وإيران. فعودة "طالبان" إلى السلطة تعزز حركات التطرف الإسلامي في آسيا الوسطى والقوقاز. كما تعزز حركة الانفصال الإسلامية في سيكيانغ في الصين، وتثير مخاوف إيران الشيعية من هيمنة "طالبان" السُّنية على الحكم في كابول. كما أن ذلك من شأنه أن يقيم تحالفاً بين "طالبان" الأفغانية و"طالبان" الباكستانية، الأمر الذي قد يطيح بالحكم القائم في إسلام آباد الذي يترنّح حتى من دون هذا التحالف. وإذا حدث ذلك فإن الهند ستشعر بالمزيد من القلق من احتمال وصول حركة "طالبان" إلى السلطة بما، وبمن، تمثل ووضع يدها على الترسانة النووية الباكستانية. ومن أجل ذلك فإن المخرج الاستراتيجي للولايات المتحدة من أفغانستان ربما يتطلب "عرقنتها"، أي تحويلها إلى عراق ثانٍ، وذلك من خلال تفجير الصراعات القبلية والأثنية والمذهبية بين العناصر التي يتشكل منها الشعب الأفغاني. وبذلك تنشغل أفغانستان بنفسها، وتغرق حركة "طالبان" في أتون الصراعات داخل صفوفها. وبهذا يتحول قتال القوات الأجنبية إلى اقتتال داخلي بين فصائلها المسلحة، وتطوى بذلك صفحاتها الجهادية! وفي اعتقاد كيسنجر، مهندس المفاوضات مع "الفيتكونغ" والانسحاب من فيتنام، أن القوات الأميركية دخلت إلى أفغانستان من أجل معاقبتها لمنحها ملاذاً آمناً لابن لادن ولتنظيم "القاعدة" الذي ارتكب جريمة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. ولكن مقتل بن لادن أزال كل مبرر معنوي لاستمرار هذه القوات. وفي رأي كيسنجر أيضاً أن مواجهة الإرهاب مسؤولية دولية وليست مسؤولية أميركية فقط، ولذلك يقترح أن تدعو الولايات المتحدة إلى مؤتمر دولي حول أفغانستان تشارك فيه دول الجوار إلى جانب حركة "طالبان" نفسها. وأيّاً يكن الموقف من اقتراح كيسنجر فإن الحل العسكري في أفغانستان فشل.. والحل السياسي لا يزال مشروعاً غامضاً تتناقض وجهات نظر دول جوار أفغانستان حول الأسس التي يمكن أن يقوم عليها.