يعرف معجم أوكسفورد الإنجليزي الفساد بأنه "انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة". ويكشف الفساد عن وجهه من خلال أشكال عديدة لعل من أخطرها إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة وأجهزتها) من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير مشروعة كالرشوة والابتزاز والمحسوبية والاختلاس، وهو ما يسمى بالفساد السياسي. ويلي هذا النوع من الفساد في الخطورة ما بات يسمى الآن في علم الجريمة "جرائم الشركات" حيث تتجسد هذه الأخيرة أو الجرائم الاقتصادية في انحرافات مالية أو إدارية ترتكب عن طريق القطاع الخاص. وفي المرحلة الحالية تهيكل الفساد كمؤسسة ذات نفوذ في كثير من الدول، بحيث فاقت أكثر القطاعات العامة نشاطاً وتعايشت معها، وغدت قوة لا يسهل إيقافها، بل اتسع نفوذ "مؤسسة الفساد" فشمل أغلب مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعددت مسمياته الفرعية: الرشوة، العمولات، التزوير، التهريب، والتهرب من دفع الضرائب، والغش، والنصب والاحتيال، واستيراد الممنوعات. مناسبة هذا الحديث، الحملة التي يقوم بها عدد من الكتاب ضد "القطاع الخاص" باعتباره أحد مراتع الفساد، بل إن بعض هؤلاء الكتاب يعتبرونه المرتع الأوحد. وربما كان الكشف عن رجال الأعمال الفاسدين في مصر وتونس الدافع الأبرز لهؤلاء الكتاب نحو التركيز على "القطاع الخاص" كمنبع للفساد، حيث كشفت ثورتا البلدين عن المليارات المنهوبة والمهدورة من أموال الشعبين المصري والتونسي وثرواتهما على أيدي رجال أعمال ارتبطوا بعلاقات مشبوهة مع نظامي الحكم المخلوعين. وقد عزز هذا الطرح التقرير الأخير لمنظمة "النزاهة العالمية" الصادر في مايو 2011 (وهي منظمة دولية غير ربحية تتعقب الحكومات واتجاهات الفساد عالمياً)، حيث أكد تقريرها على أن أداء مصر "في اتخاذ إجراءات لنبذ الفساد وتعزيز الشفافية قد سقط بشكل كامل منذ 2006 وحتى نهاية 2010، واضعاً بذلك ضغطاً كبيراً على النظام الحاكم الهش بطبيعته فيما قبل ثورة يناير 2011"، ومشيراً إلى "نقاط ضعف مشابهة وجدت في مجموعة من الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل اليمن والضفة الغربية". وقد استخلص مدير المنظمة "أن نتائج عدد من الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء خلال العام الجاري أم في الأعوام الماضية، ترسم صورة مقلقة"، لذلك حينما نتحدث عن الحكومات الجيدة فإن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "يعتبر حفرة سوداء". إن كان الفساد المشار إليه خطيئة "ساطعة"، فإن من أكبر الخطايا ممارسة التعميم وإطلاق الأحكام. فكما أن هناك قطاعاً خاصاً فاسداً، هناك بالمقابل رجال قطاع خاص وطني رشيد وخلاق، يضع الوطن في المقدمة من نشاطه. ولتحديدٍ أكبر، أخص هنا بالذكر، على الصعيد الفلسطيني والعربي، وعلى سبيل المثال لا التعميم، مؤسسي وأعضاء "مؤسسة التعاون". هذه المؤسسة الأهلية التنموية الرائدة التي تساهم بتميز في تطوير قدرات الإنسان الفلسطيني والحفاظ على تراثه وهويته ودعم ثقافته الحية ومجتمعه المدني، وذلك من خلال التحديد المنهجي لاحتياجات الشعب الفلسطيني وأولوياته والعمل على إيجاد الآليات السليمة للاستفادة القصوى من مصادر التمويل المتاحة. وهناك أيضاً رجال أعمال أسهموا بقوة في إطلاق "مؤسسة فلسطين الدولية"، أول مؤسسة تتخصص في تحصيل المعرفة العلمية عن الجاليات الفلسطينية (والعربية) المقيمة في بلدان المهجر والشتات، والتي يتلخص هدفها العام في إعداد الدراسات وتقديم الخدمات عبر مشاريع ذات طبيعة تنموية، بالتفاعل مع هذه الجاليات وأصدقاء القضية في المهجر، دعماً لصمود الشعب على أرض فلسطين. وهناك المرحوم خالد شومان الذي لم يبخل هو وورثته بخدمة المجتمع من خلال المنتدى البارز "دارة الفنون". وقد تم في الأسبوع الماضي إطلاق مؤسسة نوعية جديدة هي "مؤسسة خليل السالم الخيرية" التي يتوقع منها خدمة المجتمع الأردني على نحو نموذجي. إن رجال الأعمال والمفكرين القائمين على هذه المؤسسات وغيرها، لا يمكن إنكار دورهم في دعم المجتمع الفلسطيني والعربي، وتقديم خدمات متنوعة، سواء منها الطبية أو الزراعية أو الاجتماعية أو التربوية أو الحقوقية، مع تعزيز صمود المواطنين أمام الاحتلال الإسرائيلي. ويدخل فساد القطاع العام في علاقة جدلية مع فساد القطاع الخاص. فالأول "يتضامن" في أغلب حالات الفساد وقضاياه مع "فساد شقيق" يدور في أوساط القطاع الخاص الذي يصر البعض على أنه البؤرة الأولى لإنتاج تلك الحالات، سواء في التحريض عليها أو في القوة الدافعة إلى ارتكابها، ومن ثم التغطية عليها عند اكتشاف أمرها وافتضاحها. غير أن التعميم بتحميل القطاع الخاص المسؤولية عن الفساد، أمرٌ لا يصح بل وربما يدخل في سياق "اغتيال الشخصية" الاعتبارية لهذا القطاع المنتج. وفي هذا يقول جعفر هديب، مدير عام هيئة تشجيع الاستثمار في فلسطين في مقال حديث: "هل هي نقطة سوداء في ثوب ناصع البياض؟ أم أن كل الثوب أسود؟ هل إدانة واحد أو عشرة أو أكثر من القطاع العام أو القطاع الخاص بالفساد تعني أن الجميع فاسدون؟ لمصلحة من تتم هذه التعبئة التحريضية ضد القطاع الخاص في الوطن العربي؟ لمصلحة من يتم تدمير العلاقة المفترضة بين القطاع الخاص العربي وقضايا أمته ومستقبلها؟ لمصلحة من يتم استغلال قضايا فساد ستتم محاسبة أصحابها أمام القضاء العادل، من أجل إلصاق تهمة الفساد -إدعاءً وتضليلا- بالقطاع الخاص ككل؟". لقد وصل العديد من رجال الأعمال في القطاع الخاص إلى العالمية، وكان يمكن لهم نسيان جذورهم، ومع ذلك نراهم يساهمون في إعمار بلدانهم، مقدمين نماذج تضرب بها الأمثال في النزاهة والانتماء، كونهم مقتنعين بالدور الحيوي للقطاع الخاص في عملية البناء والتطوير، وكونه قطاعاً يخلق ويبني قاعدة من الأسس السليمة لشراكة قوية ومستقرة، وأحياناً ندية، مع الاستثمار الأجنبي. ومعلوم أن القطاع الخاص يلعب في معظم دول العالم دوراً كبيراً وهاماً، سواء في التنمية الشاملة للدول أو في نطاق "المسؤولية الاجتماعية المجتمعية"، بما يقدمه من تبرعات نقدية أو عينية، دعماً لـ"العباد" من أبناء الوطن، تعليمياً وتثقيفياً وفنياً، علاوة على دعم مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة الشبابية والرياضية والخيرية والحزبية، وفي إنشاء باقي الخدمات العامة. لذا، نختم متفقين مع "هديب" إذ يقول: "من المهم، وبشكل عاجل، معالجة ظاهرة التحريض المباشر وغير المباشر على القطاع الخاص التي بدأت تنمو بسرعة في الوطن العربي".