"من حسن حظ العلماء، وسوء حظ علماء الرياضيات أن نظريات الرياضيات لا تملك براءة اختراع". ضجت القاعة بالضحك عندما قال ذلك عالم الرياضيات اللبناني الأصل مايكل عطية. كانت تلك محاضرته الوداعية عام 1995 لمنصبه كرئيس لـ"الجمعية الملكية"، وهي بمثابة أكاديمية العلوم في بريطانيا. وتبدو النكتة الآن أغلى النكات في تاريخ الرياضيات التي يقول عنها أحد أبرز علمائها، وهو فرانسيس بيكون، "إذا أضاع المرء روح النكتة فعليه بدراسة الرياضيات". وهل توجد نكتة أبدع مما تفعله علوم "الطوبولوجيا" التي نال عنها عطية وسام "فيلدز" و"جائزة الملك فيصل"، وهما جائزتان معادلتان لـ"نوبل"؟ وفي الرياضيات، كما يقول أنشتاين، لا تهتم بما يقوله علماؤها، بل انظر إلى ما يفعلون. وتفعل "الطوبولوجيا" ما لا يصدّق في الهندسة والطب والكومبيوتر والمال والاقتصاد وعلوم الاجتماع والنفس والاتصالات والألسنيات والفن والسياسة، وحتى في قضايا الأمن الدولي والهجرة وتنظيم الحدود، وأزمة الاقتصاد العالمي، والأسواق المالية، والصراعات الاجتماعية. إنها كالرسم على ورق من مطاط؛ "فإذا ما رُسم منحنٍ ما ثم جُذب ذلك الورق، وعُوّج، وفُرِك شتى أنواع الفرْك من غير أن يتمزق، فكيف يمكن تحديد الخاصيات النوعية والكيفية لذلك المنحنى بصرف النظر عن خاصياته المترية المرتبطة بقياس المسافات والزوايا"؟ هكذا يُعّرِف "الطوبولوجيا" حمادي بن جابالله، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، في مقدمة ترجمته لكتاب "العلم والفرضية" للفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه، أحد مؤسسي "الطوبولوجيا". وتوجد الطوبولوجيا بشكل طبيعي في جميع فروع الرياضيات تقريباً، وتعتبر أحد أكبر الأفكار الموحدة لعلوم الرياضيات. وتكمن قوتها المحفزة في أن بعض المسائل الهندسية لا تعتمد على أشكال دقيقة للأشياء المعروضة إنما للطريقة التي وضعت فيها سوية. لشكلي المربع والدائرة على سبيل المثال مكونات عدة متماثلة؛ فكلاهما شيء ذو أبعاد من وجهة النظر الطوبولوجية، وكلاهما يقسم الفسحة قسمين، داخلي وخارجي. وتعني كلمة "طوبولوجيا" الأغريقية الأصل "درس المكان" وهي غير الطوبوغرافيا التي تصف أو ترسم سطوح الأماكن، كالهضاب أو الوديان أو الأنهار. فالطوبولوجيا تدرس تاريخ مكان أو إقليم كما تدل عليه طوبوغرافيته، وهي فرع من الرياضيات اللاهندسية واللاكمية يدرس موقع الشيء بالنسبة للأشياء الأخرى، ليس بشكله أو حجمه، بل بالعوامل الهندسية التي لا تتغير حين يمر الشيء بتغيرات مختلفة، كقطرة الماء أو الموجة؛ يتغير شكلها عندما تلتوي وتتأرجح وتتدلى، لكنها تظل ثابتة طالما لا تتحطم أو تتناثر. وتحدث الطوبولوجيا ثورة في مفاهيم واستراتيجيات "الجيوبولتيك" حين تُدخل البعد التاريخي إلى الجغرافيا السياسية، وتقدم دراسة "حية" للكتلة القارية الأوروآسيوية التي تبعث من جديد طريق الحرير. فبعد قرون من اندثار هذا الطريق الذي أقام أول طرق التجارة العابرة للقارات، عقدت في الشهر الحالي القمة اليوبيلية لـ"منظمة شنغهاي للتعاون" في العاصمة الكازاخية أستانا. وتضم المنظمة التي تأسست عام 2001 روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزيا وطاجكستان وأوزبكستان، وتبلغ المساحة الإجمالية للدول الأعضاء ثلاثة أخماس مساحة أوراسيا، وعدد سكانها 1.5 مليار نسمة، أي ربع سكان الكرة الأرضية، وفي حال قبول إيران وباكستان اللتين تقدمتا للحصول على العضوية الكاملة، وانضمام الهند العضو المراقب، فإنها ستمثل نحو نصف سكان العالم. وصراع واشنطن ودول "الناتو" مع موسكو وبكين على "طريق الحرير"، يثير الحرائق في بلدان الربيع العربي. يكشف ذلك الباحث الدبلوماسي "بهادراكومار"، سفير الهند السابق في روسيا وألمانيا والكويت وتركيا. فهذا الطريق القادر على تأمين حاجات أوروبا للطاقة ليس مجرد ممر أنابيب تنقل النفط، بل كما كان في عصوره الذهبية شبكة من آلاف الطرق الصغيرة التي تنبض مدنها ومزارعها ومصانعها وأنابيب نقل الطاقة فيها كشرايين وأوردة الجسم تغذي المساحات القارية للصين وبلدان آسيا الوسطى والعالم العربي وأوروبا. تفكيك هذه الكتلة القارية هدف اللطمات المدمرة التي تنزلها واشنطن وبلدان "الناتو" بجسد الربيع العربي. فكلاهما لا يملك أوراق صالحة للعب في زمن "طريق الحرير"، ولا ربحية في تجارتهما التي تنفق الملايين لتأمين حماية التجار، ولا جدوى لتحذيرات واشنطن من الخطر الصيني شعوب طريق الحرير المتمرسة بالتجارة الدولية منذ آلاف الأعوام! وتدمي قلوب المسلمين الذين يشكلون العمود الفقري لهذا الطريق لمرأى نيران واشنطن ودول "الناتو" تحول ربيع سوريا وليبيا ومصر وتونس إلى حرائق جهنمية. من مدينة "يو" الصينية التي يلتقي في مطاعمها وفنادقها تجار سوريا واليمن وبلدان الخليج، و"بيشكك" في قرغيزستان، و"دوشانبه" في طاجكستان، و"طشقند" في أزبكستان، و"أستانا" في كازاخستان، و"إسلام آباد" في باكستان، و"كابول" في أفغانستان، و"أشخباد" في تركمانستان... يعرفون أن كلمة السر في هذه الحرائق هي احتياطيات الطاقة الهائلة في بلدان "طريق الحرير"، التي يعتمد عليها بقاء أوروبا بعد خيبة آمالها بالطاقة البديلة، وتخليها عن مشاريع الطاقة النووية إثر كارثة فوكوشيما في اليابان. احتياطيات الغاز في تركمانستان وحدها يمكن أن تسد حاجات أوروبا لثلاثين سنة قادمة. وإذا كان أبناء الأثرياء المحظوظين يولدون وفي أفواههم ملعقة من ذهب، فمايكل عطية ولد وفي فمه ملعقة "طوبولوجيا". فوالده أدوارد عطية مؤلف واحد من أكثر الكتب المنشورة بالإنجليزية عاطفة مشبوبة تجاه العرب. "أنا مسيحي سوري ولدت في لبنان وتعلمت في مدرسة إنجليزية بمصر وفي جامعة أكسفورد". بهذه الكلمات يفتتح عطية الأب كتابه "عربي يروي قصته" المنشور عام 1946. توجع القلب مرارة لهجة الكتاب الذي يحمل العنوان الفرعي "دراسة في الولاءات"، وحديثه مفجع عن الأزمة الأخلاقية التي عاناها أفراد من جيله تعاونوا مع بريطانيا بأمل تحقيق الطموحات العربية. يصف في فصل عنوانه "قومي عربي"، لحظة الانفجار الروحي التي حدثت بعد تخرجه من أكسفورد وعمله كموظف في إدارة التعليم البريطانية في الخرطوم بالسودان. "انقلبت حياتي كلها على عقبها وأصبحت نفسي قومياً عربياً". وأعلن عطية في كتابه الذي صدر قبل تأسيس إسرائيل بسنتين أن فلسطين هي الحد الفاصل بين بريطانيا والعرب. "مصير فلسطين هو العامل الحاسم الذي سيحدد أكثر من أي شيء آخر اتجاه العلاقات الأنجلوعربية في السنوات المقبلة". وقبيل غزو لندن وواشنطن العراق عام 2003 أصدر عطية الابن الذي يحمل لقب النبالة (سير) بياناً ندد بالحرب القادمة، وانضم -وهو واحد من الأعضاء الخمسة لمجلس حكماء ملكة بريطانيا- إلى طلابه في جامعة أدنبرة في المظاهرات المليونية المناهضة لاحتلال العراق. إن هدف العلم، كما يقول الأديب الألماني برتولت بريخت، "ليس فتح الأبواب لحكمة لانهائية، بل غلق الأبواب أمام أخطاء لانهائية".