هناك إجماع بين الباحثين في "علم الثورة" على أنه ليست هناك ثورة -أيّاً كان اتجاهها الإيديولوجي- تحدث فجأة. إذ لابد أن تسبقها مسيرة طويلة من الاحتجاج الشعبي على تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ليس ذلك فقط، ولكن - وقد يكون ذلك أولاً- النضال ضد النظام السلطوي الذي يقوم عادة قادته باحتكار العمل في السياسة، عن طريق إقصاء واستبعاد القوى السياسية المعارضة للنظام، وتأسيس تنظيم حزبي وحيد عادة يسند إليه العمل في السياسة، وإن كان ذلك بصورة بيروقراطية، وليس باعتبارها تعبيراً حقيقيّاً عن مصالح الجماهير وعملاً منظماً من أجل إشباع حاجاتها الأساسية. والواقع أنه إذا أردنا -بصورة موضوعية متجردة- أن نبحث عن أصول السلطوية السياسية التي عبر عنها أبلغ تعبير "الحزب الوطني الديمقراطي" في عهد مبارك، فلابد أن نعود إلى ثورة يوليو 1952. فقد مثلت هذه الثورة قطيعة تاريخية مع العهد الليبرالي الذي تحددت بدايته بإصدار دستور عام 1923. وذلك لأن "الضباط الأحرار" الذين قاموا بانقلاب يوليو، الذي سرعان ما تحول إلى ثورة بحكم تبنيهم للمشروع الإصلاحي للحركة الوطنية المصرية الذي تبلور عبر السنوات منذ عام 1945، وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يوليو 1952. وهذا المشروع الإصلاحي صاغته القوى السياسية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بعدما تبين أن النظام القديم -بحكم تفاقم أزمة الديمقراطية والأزمة الاجتماعية- قد تهاوى وأنه لابد من إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي. ودخلت ثورة يوليو 1952 في صراع حاد مع الأحزاب السياسية القديمة وكان أبرزها حزب الوفد الذي كان حزب الأغلبية، ومع جماعة "الإخوان المسلمين" التي أراد قادتها أن يشاركوا الضباط الأحرار في حكم مصر. وانتهى هذا الصراع بإصدار قادة الثورة قانوناً تلغى بمقتضاه الأحزاب السياسية وتحل جماعة "الإخوان". ولملء الفراغ السياسي أنشأت الثورة تنظيماتها السياسية الخاصة بدءاً بهيئة التحرير التي أعقبها الاتحاد القومي الذي تحول هو الآخر من بعد ليصبح الاتحاد الاشتراكي العربي. وكل هذه التنظيمات لم تكن أحزاباً سياسية حقيقية، بقدر ما كانت منظمات تقوم على حشد وتعبئة الملايين وتدار عادة بطريقة بيرقراطية سلطوية بحيث تغيب عنها تقاليد الديمقراطية الحزبية. وإذا كان السادات قد حاول التخفيف من غلواء هذه السلطوية السياسية المطلقة التي قضت على التعددية الحزبية ومنعت الجماهير من الاشتغال بالسياسة، وذلك عن طريق إنشاء منابر داخل الاتحاد الاشتراكي أولاً قبل أن يسمح بقيام أحزاب سياسية تمثل اليمين والوسط واليسار، إلا أن الطابع السلطوي للنظام السياسي المصري ظل سائداً، لأن رئيس الجمهورية أراد أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة في عملية اتخاذ القرار سواء بالنسبة للسياسة الخارجية حين أبرم اتفاقية كامب ديفيد، أو بالنسبة للسياسة الداخلية حين ألغى السياسات الاشتراكية، وطبق سياسية الانفتاح، أو فلنقل حين قرر الانتقال إلى تطبيق الرأسمالية. وجاء عهد مبارك الذي رسخ السمات السلطوية للنظام السياسي المصري، لأنه و"الحزب الوطني الديمقراطي" احتكر العمل في السياسة عن طريق التزوير المنهجي لانتخابات مجلسي الشعب والشورى. بالإضافة إلى تطبيق قانون الطوارئ وإقصاء الأحزاب السياسية المعارضة، ومحاصرة حركتها ومنعها عمليّاً من الاتصال بالجماهير. وقد أدى احتكار النظام للسلطة إلى احتكار للثروة، مما أدى إلى استشراء الفساد السياسي والاقتصادي، وحدث استقطاب طبقي حاد بين القلة المترفة من رجال الأعمال الذين بتواطئهم مع الدولة نهبوا أراضي الشعب المصري وتاجروا فيها وربحوا المليارات، والغالبية العريضة من جماهير الشعب التي باتت تعاني من سوء الأحوال الاقتصادية والبطالة، مما أدى في النهاية إلى زيادة دوائر الفقر في البلاد. وإذا كنا قد حاولنا في إيجاز عرض وتلخيص السمات الرئيسية للسلطوية المصرية في العهود الثلاثة الناصرية والساداتية والمباركية -إن صح التعبير- إلا أنه يمكن القول إن مصطلح السلطوية يعتبر من المصطلحات الرئيسية في تصنيف النظم السياسية عموماً إلى "شمولية" تصادر المجتمع المدني تماماً وتمنع كافة المبادرات الجماهيرية، و"سلطوية" تهيمن على المجتمع السياسي وإن كانت تسمح بهامش ضئيل للتعبير عن الآراء المعارضة، و"ليبرالية" تفتح الباب واسعاً وعريضاً أمام التعددية الحزبية وتداول السلطة. ومع ذلك فإن السلطوية المصرية اختلفت ممارساتها اختلافات جوهرية في المراحل التاريخية الثلاث التي مر بها المجتمع المصري، منذ ثورة يوليو 1952 حتى ثورة 25 يناير 2011. وذلك لأنه في عهد ثورة يوليو -مع الاعتراف بأنها مارست السلطوية بمعنى احتكار العمل في السياسة لتنظيمات الثورة المختلفة (هيئة التحرير، الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي العربي)- إلا أن الثورة كان لديها مشروع أساسي وهو تطبيق العدالة الاجتماعية، وتقنين سياسة تكافؤ الفرص، والنهوض بالطبقات الفقيرة، ورفع الحصار الذي كان سائداً في العصر الملكي عن الطبقة الوسطى. كان هناك للأمانة والتاريخ مشروع ثوري للنهضة، ولكنه تعثر لأنه طار بجناح واحد هو العدالة الاجتماعية التي أشبعت حاجات أساسية لدى الجماهير، ولكنه أغفل الجناح الثاني وهو الحرية السياسية. ولعل أحد الأسباب العميقة لهزيمة يونيو 1967 يكمن في ذلك، لأن التضييق على الحريات السياسية ومنع حرية التفكير وحرية التعبير وسيادة الإعلام الموجّه، هو الذي مكن مراكز القوى الفاسدة من أن تهيمن على المجتمع، مما أدى إلى الانحراف في مجال تحقيق برنامج ثورة يوليو 1952. أما في عهد السادات الذي حاول تفكيك السلطوية المصرية التي كانت سائدة في العهد الثوري، وذلك بسماحه بقيام أحزاب سياسية متعددة تمثل اليمين والوسط واليسار، فسرعان ما عاد إلى السلطوية، بمعنى الهيمنة الكاملة على إصدار القرار، حين ظهرت معارضة قوية لسياساته الداخلية والخارجية. أما مبارك فقد مارس السلطوية بصورة مطلقة، بمعنى احتكار العمل في السياسة من خلال حزب الأغلبية المزعوم وهو "الحزب الوطني الديمقراطي"، وتطبيق سياسات رأسمالية فاسدة أدت إلى إفقار الشعب، مما ساعد على تصاعد السخط الاجتماعي وظهور حركات الاحتجاج الاجتماعي. وقد أدى التضييق على الحريات السياسية وتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى نشوء جيل جديد من الناشطين السياسيين، أغلبهم من الشباب الذين حاولوا تحطيم قيود السلطوية السياسية بمبادرات خلاقة، كان هدفها في الواقع "إعادة اختراع السياسة" التي غابت ممارستها عن مصر عقوداً طويلة من السنين.