قليلة هي جدوى التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل للحصول على اعتراف بدولة فلسطينية مستقلة. فهذا اعتراف رمزي لا يخلو من فائدة، لكنه لا يرتب نتيجة عملية ولا يكفل حتى نيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة بدون موافقة مجلس الأمن الذي يتحكم في قراره "الفيتو" الأميركي. وقد يكون مجدياً أكثر التوجه إلى الجمعية العامة بطلب للنظر في إمكان إعادة إنتاج قرارها التاريخي الذي دمغ الصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية. فقد نجحت إسرائيل عام 1991 بدعم غربي في إلغاء هذا القرار الذي صدر في نوفمبر 1975 تحت رقم 3379 بعد أن تغير ميزان القوى الدولي الذي سمح للعرب بانتزاعه واستمراره خمسة عشر عاماً. فلم يُلغ هذا القرار بسبب تخلي الصهيونية عن عنصريتها، بل نتيجة تغير الظروف التي أتاحت إصداره في لحظة مواتية برز فيها العرب كقوة دولية مؤثرة عقب حرب 1973 ومعركة النفط التي صاحبتها، وتوسع نطاق الدعم الدولي لقضية فلسطين، وحصول "منظمة التحرير" على صفة مراقب في الأمم المتحدة، وتصاعد نضال دول الجنوب (العالم الثالث) لإقامة نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة. وأعطى تواتر الجهود الهادفة إلى تسوية سلمية لقضية فلسطين عقب توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل فرصة للدولة العبرية لترويج فكرة أن هذا التطور يعني اندماجها في الشرق الأوسط وتعايشها مع جيرانها وبالتالي عدم عنصرية الفكرة التي تقوم عليها. غير أن جنوح إسرائيل المتزايد نحو اليمين منذ ذلك الوقت، وتنامي نفوذ قواها الأكثر تطرفا، وانحسار حركات السلام التي قامت بدور أساسي في تجميل صورة الصهيونية، يخلق وضعاً جديداً يتيح خوض معركة يمكن أن تكون ظافرة لإعادة تأكيد عنصرية الصهيونية استناداً على ما يحدث في الواقع. فقد تراكمت في السنوات الأخيرة التشريعات والسياسات الإسرائيلية الناضحة بالعنصرية. وكان آخرها حتى الآن تعديل قانون المواطنة لإلزام غير اليهود الحاصلين على الجنسية بإعلان الولاء للدولة الإسرائيلية كدولة يهودية. ويصاحب ذلك ازدياد الميل العنصري في المجتمع الإسرائيلي بشكل مطرد على نحو يُقلق حتى "المعتدلين" فيه، الأمر الذي يفرض على الأمم المتحدة التدخل قبل أن يؤدي ذلك إلى تطهير عرقي بشكل جماعي واسع. فهذا التطهير حاصل الآن فعلاً، لكنه يتوسع وينذر بخطر داهم لابد أن ينتبه إليه الضمير العالمي. وما الضغوط المتزايدة الآن على فلسطينيي القدس المحتلة لمغادرة مدينتهم، ووطنهم كله، إلا دليل آخر على ذلك. فقد وسعّت جماعات يهودية تحظى برعاية رسمية نشاطاتها الهادفة إلى تفريغ القدس من أهلها، وأضافت إليها إغراءات مالية. وتوزع هذه الجماعات، منذ أكثر من عام، بيانا باللغة العربية تحت عنوان "نداء إلى جميع المسلمين الساكنين في أرض إسرائيل" تدعوهم إلى التفاوض على السفر إلى أي بلد آخر في مقابل مساعدات مالية مغرية. وربما يوفر الشروع في حملة عالمية لشرح ما آل إليه التمييز ضد غير اليهود في "إسرائيل" ومقارنته بنظام "الآبارتايد" السابق في جنوب إفريقيا، وهو المرجع المعتمد دولياً في هذا المجال، فرصة لإلحاق هزيمة بإسرائيل قد تخلق من التداعيات ما لا يرقى أي اعتراف بالدولة الفلسطينية إلى مثله. ولن تبدأ هذه الحملة، حال الشروع فيها، من فراغ. فقد صدرت في العامين الأخيرين تقارير عدة عن منظمات حقوقية ومراكز بحثية ذات مصداقية، تثبت أن مستوى العنصرية في إسرائيل لا يقل عما كان عليه في جنوب إفريقيا. ومن الطبيعي أن تواجه الحملة مقاومة قوية من أنصار إسرائيل الذين نجحوا في تغطية ممارساتها العنصرية لفترة طويلة. غير أن الجموح الشديد الذي حدث في هذه الممارسات في العامين الأخيرين بصفة خاصة يجعل قدرتهم على إخفائه أو تبريره أقل من ذي قبل. لكن نجاح حملة إعادة توصيف الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية، يتطلب تأسيسها على رؤية قوية مقنعة تقطع بأن ممارسات التمييز الراهنة هيكلية وليست فقط وظيفية، وأنها تتسم بالدوام رغم أن بعضها يحدث في أرض محتلة وبالتالي يفترض أن وضعها مؤقت. فالمطلوب إذن، هو تأسيس فكرة أن العنصرية الصهيونية تنتج نظام "آبارتايد" آخر، على أسس قوية. والأساس الأول الذي يصح أن تقوم عليه هذه الفكرة هو أن الاحتلال، الذي طال أمده وسيطول أكثر، لم يعد وضعاً مؤقتاً. فالأغلبية الساحقة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة اليوم نشؤوا في ظل وجود سلطة إسرائيلية تمارس تمييزاً منظماً ضدهم. وفي ظل إصرار إسرائيل على استسلام فلسطيني تام كشرط للتسوية السلمية، يتحول الاحتلال إلى حال شبه دائمة على نحو يفرض تجاوز قصة "الخط الأخضر" التي أتاحت لها الإفلات من محاسبتها على التمييز الذي تمارسه شرق هذا الخط باعتباره فصلاً عنصرياً. وفي الوقت الذي تعلن إسرائيل نفسها دولة يهودية، وتفرض قيوداً متزايدة على غير اليهود، يصبح ضرورياً النظر إلى سياستها تجاه الفلسطينيين الذين أصبحوا ضمن مواطنيها، وأولئك الذين يخضعون لاحتلالها، باعتبارها سياسة واحدة تقوم على نظام "آبارتايد" ممتد بين البحر والنهر، لكن تطبيقه يختلف غرب "الخط الأخضر" عنه في شرق هذا الخط على النحو الذي بدأ بعض الباحثين الفلسطينيين مؤخراً في توضيحه وإقامة الأدلة عليه. وانطلاقاً من هذا الأساس النظري، يمكن تشييد فكرة "الآبارتايد" الإسرائيلي على وقائع لا حصر لها تنطق بعنصرية سافرة ليس بالمعنى العام فقط، بل بالمعنى المحدد الخاص بعزل السكان أيضاً. وهذا هو المعنى المقصود في نظام "الآبارتيد" الذي ينصرف إلى إجراءات للتمييز الهيكلي تظهر، في حال إسرائيل، في عزل منهجي للسكان الفلسطينيين كان الجدار الفاصل أحد تعبيراته الواضحة، والتي شمل أيضاً أعمال إقصاء سكاني متكرر، وهدم منازل بشكل منظّم في مناطق معينة، وتخصيص طرق وشوارع خاصة لليهود. وتمثل مدينة الخليل نموذجاً للتمييز الهيكلي الذي يدخل في إطار "الآبارتايد"، خصوصاً بلدتها القديمة والقرى التي تقع في تلالها الجنوبية ويفصلها سياج أسلاك شائكة عن مستوطنة "الكرمل" اليهودية. ففي هذه القرى، ليس مسموحا للفلسطينيين المعزولين وراء الأسلاك ببناء منازل أو حتى حماّمات. لذلك يعيشون في أكواخ وخيام متداعية لا تصلها الكهرباء، بخلاف جيرانهم على الجانب الآخر من الأسلاك. فتبدو "الكرمل" مثل ضواحي المدن الأميركية حيث الحدائق الغضّة الغناّء والمنازل المكيفة. وليس هذا إلا مثالا واحداً يدل على سياسة "آبارتايد" تشين الضمير الإنساني في القرن الحادي والعشرين على نحو قد يوفر فرصة تاريخية لإعادة دمغ الصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية.