من المنظور التاريخي دائماً ما عُرف الإدمان على أنه نوع من الاعتماد الشديد والحاجة المُلحة القهرية لتناول وتعاطي بعض المواد الكيميائية مثل الكحوليات، والتبغ، والهيروين، وغيرها كالعقاقير والأدوية ذات التأثير النفسي والعصبي، القادرة على العبور من الدم إلى المخ وتغيير البيئة الكيميائية الخاصة بالجهاز العصبي بشكل مؤقت. ويمكن أيضاً تعريف الإدمان على أنه الارتباط الدائم والمستمر بمادة كيميائية، أو نمط سلوكي معين، على رغم التبعات السلبية المصاحبة. وفي هذه الحالات، يكون الهدف الأولي هو البحث عن المتعة واللذة، وبمرور الوقت تتولد حاجة لتعاطي تلك المادة أو ممارسة ذلك السلوك، كي يشعر الشخص بالاستقرار والهدوء والسكينة بشكل طبيعي. وفي الآونة الأخيرة اتسع نطاق تطبيق مصطلح الإدمان، من قبل المتخصصين والعامة على حد سواء، ليشمل مواد وسلوكيات متنوعة، مثل لعب القمار، ومشاهدة الأفلام الخليعة باستمرار، وتناول كميات كبيرة أو أنواع خاصة من الطعام، واستخدام الكمبيوتر بإفراط، وتصفح الإنترنت لساعات طويلة، وممارسة الرياضة بشكل يومي قسري، والانغماس في العمل خارج الحدود الطبيعية، وقضاء معظم الوقت أمام شاشة التلفزيون، والتطرف في ممارسة الشعائر الدينية والروحانية، والهوس بالممثلين وأبطال السينما، وإنفاق الغالي والرخيص على التسوق لأغراض ليست بالضرورية. وبين أنواع الإدمان هذه، شهد العقدان الماضيان زيادة هائلة في نوع خاص من الإدمان وصل إلى درجة الوباء وهو إدمان العقاقير التي تصرف من خلال الوصفات الطبية. وضحايا هذا النوع من الإدمان لا يندرجون ضمن الصورة النمطية لمدمني المخدرات وللمجرمين ونزلاء السجون بل غالباً ما يكونون أشخاصاً عاديين، وكثيراً ما يكونون ذوي مهن مرموقة مثل الأطباء والمحامين والقضاة والاقتصاديين والسياسيين والإعلاميين، وغيرهم من أعمدة المجتمع وشرائحه المختلفة. ويمكن إدراك حجم هذا الوباء من خلال بعض الإحصائيات الصادرة عن مركز التحكم والوقاية من الأمراض في الولايات المتحدة، وهي إحدى أفضل دول العالم على صعيد جمع وتحليل البيانات في الجوانب الصحية والطبية المختلفة، وليس فقط في جانب الإدمان وحده. وفي الولايات المتحدة تظهر الإحصائيات أن عدد الوصفات الطبية لطائفة خاصة من العقاقير تستخدم أساساً لتسكين الآلام، وتُعرف بمشتقات الأفيون (Opioids)، قد زاد منذ عقد التسعينيات، بمقدار عشرة أضعاف. ففي عام 2007 بلغ عدد الوصفات الطبية لمشتقات الأفيون أكثر من 21 مليون وصفة، تم صرفها لـ3.7 مليون شخص، وفي الوقت نفسه أقر 5.2 مليون أميركي فوق سن الثانية عشرة باستخدامهم لمسكنات الآلام -من مشتقات الأفيون وغيرها من أنواع المسكنات- دون سبب صحي أو طبي. وهذا الانتشار الوبائي لإدمان مسكنات الآلام في الولايات المتحدة، وفي العديد من دول العالم الأخرى، نتج عنه تضاعف في عدد زيارات أقسام الطوارئ بسبب الجرعات الزائدة من مشتقات الأفيون خلال أربع سنوات فقط، ما بين عامي 2004 و2008 . وبالتبعية أيضاً زاد عدد الوفيات الناتجة عن التسمم بالجرعات الكبيرة من الأدوية من 6 آلاف وفاة عام 1990 إلى 27 ألف وفاة في 2007، مما جعل حوادث الوفيات بسبب التسمم بالجرعات الزائدة تحتل رأس قائمة أسباب الوفيات العرضية أو غير المقصودة في ثماني عشرة ولاية أميركية، متخطية عدد الوفيات الناتجة عن حوادث السيارات والطرق. ولكن ما هي أسباب وقوع هذا العدد الهائل من الأشخاص العاديين ضحية لإدمان العقاقير والأدوية الطبية؟ إجابة هذا السؤال معقدة ومتعددة الجوانب إلى حد كبير، وهنا تساق عدة أسباب. أولاً: يلقي البعض باللوم على تغير في الثقافة الطبية والثقافة العامة، بحيث أصبح تحمل أبسط درجات الألم غير مقبول طبيّاً وثقافيّاً، مما سهل من وصف وتعاطي هذا النوع من العقاقير الكيميائية. ثانيّاً: الزيادة الواضحة في أنواع وأشكال مسكنات الآلام، وفي قوة مفعولها وتأثيرها، في ظل الطلب المتنامي على استخدامها من قبل ملايين الأشخاص سنويّاً، مما جعلها من أكثر أنواع العقاقير ربحية لشركات الأدوية. ثالثاً: ضعف الوعي الصحي لدى العامة بخطورة هذا النوع من العقاقير، وبسهولة تناول جرعات زائدة منها بطريق الخطأ، وبتضاعف تأثيرها في حالة تعاطي أكثر من عقار في الوقت نفسه. وفي النهاية، يوجه البعض أصابع الاتهام إلى أفراد المجتمع الطبي، متهمين إياهم باستسهال وصف مسكن الآلام بدلاً من إنفاق الوقت الكافي لتشخيص سبب الألم، وتطبيق وسائل علاجية أخرى. وفي بعض الحالات توجد شبهة المنفعة المالية، كون مدمني هذه الطائفة من العقاقير يعمدون لزيارة طبيبهم بشكل دوري متكرر لسنوات وعقود، مما يحقق دخلاً ماديّاً ملحوظاً ومضموناً للطبيب المعالج. ويمكن أيضاً إضافة سبب خاص لهذه القائمة الطويلة من الأسباب يتمثل في السماح لشركات صناعة الأدوية بالإعلان عن منتجاتها بشكل مباشر للمرضى، مما يدفع هؤلاء للإصرار على طلب مسكنات آلام من هذا النوع أو ذاك عند زيارتهم لطبيبهم، دون أن يكونوا على دراية تامة بعواقبها. ومثل هذا التنوع في أسباب الوباء الحالي من إدمان مسكنات الآلام يتطلب استراتيجية خاصة للتعامل مع الموقف، تأخذ في عين الاعتبار المفاهيم الثقافية الشائعة، ودرجة الوعي الصحي بمخاطر مسكنات الآلام، وتدقق بشكل أكبر في الفوائد المالية للمنشآت الصحية وشركات الأدوية، إذا ما كان لنا أن نقلل من عدد الضحايا الذين يسقطون في براثن هذه الطائفة من العقاقير الطبية.