تجد بميادين العواصم والمدن أهل الهوايات الخطيرة: حاوياً يُرقي أفاعيه، وممارساً يشرب النَّار، لكن لهذه الألعاب والهوايات مختصين، وإلا ما استرعت انتباه الآخرين، وللناس الفرجة والتعجب، وهي ألعاب مأمونة تحت سيطرة أصحابها، منها المعاش ومنها الفن، ولدغة الأفعى قد تصيب حاويها، ولسعة الجمرة تكوي قابضها لا سواه. أما اللعب بنار الطائفية فإنها لا تترك لا يابساً ولا أخضر، لا زرعاً ولا ضرعاً. جاء فيها الحديث: "أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطْعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ" (سنن الدَّرامي). وقال مَن عرك الحرب وأهوالها: "كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ" (نهج البلاغة). فهي لعبة حارقة لا يحجزها عن الناس حاجز، فعلى الساعين فيها الحذر الحذر، فمَن دخلها عليه حساب عظمة الإفساد. تلك مقدمة لما قام به "المؤتمر الوطني العِراقي" برئاسة الدُّكتور أحمد الچلبي مؤخراً، وهو محاولة إبحار سفينة إغاثة إلى البحرين، وشكا موقف رئيس الوزراء مِن منعها (المؤتمر 5 يونيو 2011). ليس الاعتراض على الإغاثة، فالبحرين تستحق، ولها مع العراق وشائج من عهد سومر، حيث دلمون، ومسار الدَّعوة القُرمطية (الثالث الهجري) من سواد الكوفة إليها، مع تغير الخارطة وأمست أوال هي البحرين (ابن العراق، معدن الجوهر). لكن أن تُعنون قافلة بـ"المختار" وفي ظرف البحرين الدقيق، والعراق الأكثر دقة، لهو أمر يستحق التأمل. ذلك أن اسم المختار الثقفي (قُتل 67هـ) ارتبط بالثأر، وأن يكون محمولاً على متن سفينة اسمها "رُقية"، وهي ابنة الإمام الحسين، لا يُفسر إلا أنها متجهة إلى قتلة الحسين ابن زياد وابن سعد (قُتلا 67 هـ). فانظروا كيف يتم استدراج الناس إلى الفتنة. أجده فعلا مقصوداً، أولاً للدعاية الصارخة، فاسم المختار بحد ذاته، يشحذ الروح الطائفية، وعنوان رُقية، وإن كانت سفينة، يشحذ المظلومية التي صارت وابلا على أهلنا الشيعة، وكأننا خلقنا للبكاء واستصراخ الماضي بهذا الاضطراب. لقد أُخذ الثأر ولم يبق في قلب ابن الحسين علي السجاد (ت 94 هـ) علقة منه، ولا أظن أن مِن أخلاق الأئمة الحقد والثأر. والإمام السجاد بدل انشغاله بأخذ الثأر قال دُعاء "أهل الثُّغور"، يرغب فيه بنصرة الجيش الإسلامي في العهد الأموي (راجع الصحيفة السَّجادية). إذا كان أهل الدم هذه أخلاقهم فلماذا التَّرزق بآلامهم! وهل سنبقى رهينة لهذا الثأر مدى الأزمان والأحقابِ. هل كان، مِن المؤكد، قبول أئمة زمن المختار أن يجعلهم معبراً إلى السُّلطة! فإذا تركنا الطَّبري (ت 310 هـ)، مع أنه يُعد موالياً لآل علي، فهذا المسعودي (ت 346 هـ)، وهو صاحب كتاب "الوصية" ومعلوم ماذا يعني العنوان، يقول: "كتب المختار كتاباً إلى علي بن الحسين السَّجاد يريده على أن يبايع له... فأبى عليٌّ أن يقبل ذلك منه، أو يجيبه عن كتابه، وسبه على رؤوس الملإِ" (مروج الذَّهب). علينا أخذ الحوادث في صيرورتها، فأبو فرج الأصفهاني (ت 356 هـ)، ولا شك في شيعيته، يؤكد أن المختار قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب (67 هـ)، وهو شقيق أبي بكر (مقاتل الطَّالبيين)، الذي قُتل مع أخيه الحسين (61 هـ). قتله المختار لأنه هرب مِنه وصار إلى مصعب بن الزُّبير (قُتل 71 هـ). ذَكره الطبري في تاريخه، والمسعودي في مروجه أيضاً. القصد، لا المختار تعفف عن قتل ابن علي، وهو يرفع شعار ثارات الحسين، ولا علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) تردد في تسمية ولده بأبي بكر، فلو نرى ما يُعرض علينا مِن حدة الصِّراع، الذي ذُبح فيه العراقيون خلال ما جرى بين العصابات لا بين الشَّعب، أن الحرب وصلت إلى الأسماء. ألا تفكركم معاداة الثَّقفي لابن الصرد الخزاعي (قُتل 65 هـ)، التَّواب الصَّادق وهو لا ينتظر رئاسة باسم الحسين، أن ألاعيب السياسة كانت غالبة (الطبري والمسعودي)؟! لسنا ضد الإغاثة، لكن ألا تؤدى مقابل مصالح مغطاة بشعار الدفاع عن الشيعة، وعلى حساب شعبي البحرين والعِراق معاً، وهذا ما رفضه الإمام السجاد مِن المختار، ففي تكملة خبر المسعودي، أن عبد الله بن الزُّبير (قُتل 73 هـ) ولَّى المختار على الكوفة، بعد أن نصحه الأخير بتوظيف مصائب آل البيت: "إني لأعرف قوماً لو أن لهم رجلاً له رفق وعِلم بما يأتي، لاستخرج لك منهم جُنداً تغلب بهم أهل الشَّام. فقال: مَنهم؟ قال: شيعة بني هاشم بالكوفة"، فولاه عليها (مروج الذَّهب). فكم بين الماضي والحاضر مِن مترادفات. لا أرى قافلة باسم "المختار" وتُوجه إلى البحرين، في هذه الظروف، إلا بذلك التَّوظيف، ولولا هذا لكان أسلوب الإغاثة آخر يُنفذ بلا مثيرات. أرى قرار منع الحكومة العِراقية إبحار "رقية" وعلى ظهرها "المختار" متماشياً مع مصلحة العِراق، وتقدير التزاماته الدُّولية، فالعلاقات بين الدُّول تجري عبر دبلوماسيات لا عبر تغذية الفتن. معلوم أن البحرين نفسها لا تخلو مِن طائفيين بين السُّنَّة، فيكون وصول "المختار" حجة للمواجهة، ومِن بعد إشعال المنطقة. إن وزارة الخارجية العِراقية هي الأنسب في حساب مصلحة البلاد عندما شاورت بالمنع. على أية حال، اللعبة الطَّائفية هي لعبة النَّار، فلما أراد المخلصون، مِن الطائفتين، إخمادها باللجوء إلى فتوى الشَّيخ محمود شلتوت (ت 1963) بجواز التعبد بالمذهب الشِّيعي، برز الشيخ يوسف القرضاوي نافياً، وصورة الفتوى لديَّ وبتوقيع شلتوت نفسه، مثلما كان تصريح القرضاوي بشأن البحرين لا يخلو مِن شحن الأجواء. وعندما كتبنا أن مراسلات جرت بين الشَّيخين ابن عبد الوهاب (ت 1792) وجعفر الكبير (ت 1812) قام مَن ينفيها بلا عِلم، مِن متشددي الطَّرفين، على اعتبار ألا تلاقي، مع أنها معلومة موثقة، ومِن شأنها صب الماء على النَّار المشتعلة! فالعجب العجاب مِن الإسراع لتصديق المختلف وتكذيب المؤتلف! ما يزرع الأمل أن كتاباً بعنوان "ضد الطَّائفية" كان الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب الدُّولي ببغداد (تقرير رسمي)، وهي إشارة إلى أن الأمل بالعِراق وأهله، وهم لا يتأخرون عن إغاثة أهل البحرين، لكن بلا رايات طائفية، ولا دعيات إعلامية. ختاماً: مَن يريد بناء مجده الشَّخصي عبر لعبة النَّار تلك، يصبح الجدل معه "لو قلتُ تَمرة لقال جَمرة" (مجمع الأمثال).