لعله من المميزات الأساسية لما يسمى بـ"الربيع العربي" ظهور سياسة خارجية أميركية جديدة أكثر تواضعاً مما تدعي واشنطن، حيث أصرت إدارة أوباما على النأي بنفسها عن قيادة جهود تعزيز التحول الديمقراطي في العالم العربي، ورفضت التدخل ما لم يقم الفرنسيون والبريطانيون بذلك أولاً، بل ما لم توافق الجامعة العربية أيضاً، وهي لحد الآن مازالت مترددة في إعلان أن بشار الأسد الذي يستخدم الدبابات والمروحيات لقصف شعبه لم يعد مؤهلاً لقيادة سوريا نحو الديمقراطية. لكن مع ذلك يبرز استثناء كبير يتمثل في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فعلى هذه الجبهة التي ظلت هادئة على مدى 2011، يمكن تلخيص الموقف الأميركي في التالي: أنها تتوفر على حل مفصل للصراع، وتريد اتخاذ موقف فوري وسريع، كما أنها لا تهتم كثيراً ما إذا كان الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي موافقين، أو مستعدين لقبول الخطة الأميركية، وهكذا يتحول أوباما الخجول في تحركاته الإقليمية فجأة إلى قائد ملحاح عندما يتعلق الأمر بعملية السلام، إذ خلافاً للمسألة السورية التي لم يأتِ على ذكرها منذ اندلاع الأزمة هناك إلا مرتين خلال الثلاثة أشهر الأخيرة اختار في المقابل بسط الشروط الأميركية لبدء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية حتى دون موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي عندما أعلن عن رؤيته عشية لقائه به في واشنطن ودون سابق إنذار، وهو التعامل الأكثر جفاء في العلاقات الأميركية الإسرائيلية منذ إدارة إيزنهاور. واليوم، وبتشجيع من الاتحاد الأوروبي، يحاول أوباما دفع الفلسطينيين والإسرائيليين معاً إلى طاولة المفاوضات وفقاً للمحددات التي وضعها، بحيث يتعين الموافقة على المباحثات خلال الشهر الجاري على أن تبدأ فعلياً بحلول سبتمبر المقبل. ولإنجاح هذه المساعي، انخرط الدبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون في رحلات مكوكية بين رام الله والقدس خلال الأسبوع الماضي لتأمين موافقة نتنياهو وعباس. وسيكون من الرائع أن تنجح الدبلوماسية الأميركية ونظيرتها الأوروبية في إقناع الطرفين بالتفاوض لأنه في تلك الحالة ستُفند عقيدة الإدارة الأميركية التي تروج لمحدودية نفوذها وتراجعه في الشرق الأوسط. لكن لنلقِ نظرة على الطرفين اللذين يراد لهما الجلوس إلى طاولة واحدة، فمن جهة هناك رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يقود ائتلافاً حكومياً من "اليمين" لا شك أنه سينهار إذا وافق على رؤية أوباما لإحياء عملية السلام، والتي يعارضها في جميع الأحوال، فقد أطلعني مسؤول إسرائيلي بارز في الأسبوع الماضي على قائمة طويلة من الشروط الإسرائيلية قبل الموافقة على الحل الأميركي وحتى في حالة الموافقة لن يُكتب لخطة أوباما النجاح بسبب"الفجوة الكبيرة في الثقة بين الرجلين". ومن جهة أخرى يبرز محمود عباس الذي يخطط عن عمر يناهز 76 سنة للتقاعد من منصبه، بعدما ألزم نفسه خلال السنة المقبلة بتأمين المصالحة الفلسطينية مع حركة "حماس" والتمهيد لاختيار خلف له يقود السفينة الفلسطينية في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن الذهاب إلى الأمم المتحدة للحصول على اعتراف بدولة فلسطين. وعلى مدى السنتين الماضيتين، رفض التفاوض مع نتنياهو الذي لا يكن له الكثير من الود هذا في الوقت الذي أبدى فيه الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، استعداداً أكبر لتقديم تنازلات، لكن حتى مع مجيء رئيس جديد للسلطة الفلسطينية من سيضمن أنه سيمشي على خطى محمود عباس؟ واللافت في مبادرة أوباما تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وتركيزه عليه دون سواه ليس التفاصيل المقترحة مادامت هذه الأخيرة متشابهة تقريباً مع مضامين الخطط السابقة لكلينتون وبوش، بل حتى مواقف الحكومات الإسرائيلية قبلَ نتنياهو، بل في إصرار أوباما على عدم رؤية العقبات المتمثلة من ناحية في مواقف الحكومة الإسرائيلية المتصلبة وضعف القيادة الفلسطينية وتشتتها من ناحية أخرى. فما الذي يفسر هذا الموقف الأميركي ومن ورائه الدعم الأوروبي بالنظر إلى المقاربة الخجولة للإدارة الأميركية في القضايا الأخرى بالشرق الأوسط؟ يرجع ذلك في جزء منه إلى الإحباط المتولد من سنوات طويلة من الجمود الذي وصلته العلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية، لاسيما بعدما أصبح الحل لدى العديد من المسؤولين في واشنطن واضحاً، ولم يعد في حاجة إلى المزيد من التلكؤ، هذا بالإضافة إلى تخوف الإدارة الأميركية من تفجر الوضع بعد تصويت الأمم المتحدة على طلب الفلسطينيين بالاعتراف بدولتهم، وهو ما قد يساعد المتطرفين في مناطق أخرى مثل مصر، بيد أن الضرر الذي سيلحق بالمصالح الأميركية من جراء التصويت الأممي على دولة فلسطين يبهت بالمقارنة مع تداعيات انتصار مدعوم إيرانياً يحققه الأسد في سوريا، أو فشل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، وهي الأزمات التي لم تدفع أوباما إلى التحرك وتولي القيادة. والحاصل أننا من خلال هذه الدبلوماسية الأميركية نستشف اقتناعاً ضمنياً لدى الولايات المتحدة بأنه يتعين عليها أولاً التكفير عن ذنوب حليفها الذي ترعاه في الشرق الأوسط، وهو ما أوضحه أوباما في خطابه أمام "آيباك" عندما عدد الحقائق والمعطيات، التي يتعين مواجهتها والمرتبطة بالمتغيرات السياسية العربية والتحول الديموغرافي في المنطقة العربية، وأخيراً الأمم المتحدة المتعاطفة مع الفلسطينيين، غير أنه في الوقت الذي أصر فيه أوباما على قول الحقيقة لنتنياهو، فقد سكت عنها عندما تعلق الأمر ببشار الأسد. جاكسون ديل كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"