الأزمة المالية اليونانية لم تعد مالية ولا يونانية، وإنما باتت أزمة سياسية تخص قارة أوروبا بأسرها. وحل هذه الأزمة لم يعد مالياً وإنما سياسياً، كما أنها لم تعد تهم أثينا فقط، وإنما بروكسل أيضاً. والحال الآن أنها أصبحت تمثل مشكلة فرنسية ألمانية في المقام الأول، لأن بنوك هذين البلدين هي التي باتت أكثر تعرضاً للمخاطر بسببها. وهو ما دفع زعيما البلدين إلى إبرام اتفاق على العنصر الرئيسي لحزمة إنقاذ ثانية لمساعدة اليونان المثقلة بالديون على تجنب التعرض لإفلاس يمكن أن يحمل في طياته آثاراً كارثية. وعلى الرغم من المساعدات التي تتلقاها اليونان، فإنها قد لا تتمكن من سداد ديونها أبداً، وهو ما يرجع لحقيقة أن الخطط العديدة التي أعدت لمساعدتها، ومنها الاتفاق الفرنسي الألماني الأخير، حتى وإن كان بعضها قد نجح في تجنيبها خطر الإفلاس حتى الآن، إلا أنها أخفقت من ناحية أخرى في مساعدتها على الوفاء بالتزاماتها الطويلة الأجل. وفي رأيي أنه من ضمن الأسباب التي أدت للأزمة الحالية، أن السياسات التي اتبعتها الدول الأوروبية في المجال الاقتصادي كانت تقتصر على التقيد بالقوانين الموضوعة، والالتزام بسد العجز المالي عند أحد الأعضاء، على أن يكون ذلك ضمن حدود معينة فقط. لم يكن هناك توقع لحدوث أزمة واسعة النطاق مثل تعرض إحدى الدول الأعضاء لخطر الإفلاس، لذلك فإنه عندما جاءت الأزمة اليونانية وما تلاها من أزمات أخرى فإن الاتحاد النقدي الأوروبي لم يكن مستعداً لـ"الطقس السيئ". وبالإضافة لذلك، فإن الاتحاد الأوروبي كان يعاني جراء منظومة مضطربة من السياسات سيئة التنسيق التي كان يتبعها أعضاؤه، كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر. والإخفاقات الأخيرة التي تعرض لها الاتحاد يمكن أن تدفع القائمين عليه إلى التوسع في إيجاد المؤسسات الأوروبية، وبدون ذلك سوف يتكشف قصر نظر المشروع الأوروبي في ظل بقاء ظاهرة القومية بشكل ظاهر في دول الاتحاد، وضعف الرغبة لدى عدد من أعضائه في مواجهة المخاطر غير المتوقعة التي يتعرض لها. والحقيقة أنه يجب علينا مواجهة الحقائق المعروفة للجميع في هذا الشأن منذ مدة طويلة، وهي أن ليس بمقدور منطقة تتعامل من خلال عملة موحدة أن تستمر من دون وجود دولة مهيمنة، أو من دون وجود شكل من أشكال الفيدرالية كتلك الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية مثلا. والأزمة الراهنة لا يمكن حلها من خلال إقدام اليونان على الخروج من منطقة اليورو القائمة حالياً، كما اقترح البعض. والسبب أن خروج اليونان سوف يقوض النظام المصرفي في أوروبا خلال أيام فقط، كما سيؤدي لزيادة الدين العام للدول الأوروبية الأخرى. كما لا يمكن لنا أن نتوقع أن تأتي اليونان بمعجزة كأن تقوم مثلا بالتخلص من تبعات 30 عاماً من السياسات المتراخية خلال عدة شهور. خلال السنوات العشر الماضية التي كانت لدينا فيها عملة موحدة، كان بمقدورنا تعيين وزير لمالية الاتحاد الأوروبي للتحكم على نحو كفء في السياسة الاقتصادية لكل دولة من الدول الأعضاء. وكان بوسع الدول الأوروبية فعل المزيد كي تضمن أن البنوك العاملة فيها سوف تتحمل نصيبها من العبء، خصوصاً وأن تعويضات الأتعاب التي تدفع لمدرائها تؤكد أنه كان بمقدورها فعل ذلك. وبما أن الابتكار والنمو يمثلان معا طريق الخروج من الأزمة الاقتصادية، فإنه كان بإمكان أوروبا القيام بتطوير برنامج لدعم الاستثمارات الضخمة في الصناعة الأوروبية، وتدشين برامج لإنتاج طائرات الركاب، وقطارات السكك الحديدية، ووسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، والسيارات الكهربائية، وللاستفادة من تطبيقات علم الجينوم. كان يجب علينا المضي قدماً في اتخاذ قرارات أوروبية شجاعة. بيد أن الوقت لعمل كل ذلك قد فات منذ زمن طويل... للأسف الشديد. وإذا ما غضضنا الطرف عن اليونان وتركناها تفلس، فإن اليورو سوف يختفي. ليس هذا فحسب بل أن بقاء فكرة الاتحاد الأوروبي ذاتها سوف تصبح موضع شك حيث يتوقع في مثل هذه الحالة أن تزداد البطالة، بما في ذلك داخل ألمانيا نفسها التي كانت حتى الآن الدولة الأكثر انتفاعاً من اليورو المقيم بأقل من قيمته الحقيقية. وإذا ما تركنا اليونان تفلس، فستنتظرنا أزمة اقتصادية وسياسية أسوأ من تلك التي نواجهها منذ عام 2008. لـذلك كله يتعين علينا العمل على تغيير المنظور الذي ننظر للأمور من خلاله. يجب علينا مثلا التوقف عن النظر إلى المشكلة اليونانية والبدء بالتفكير في مشكلة الاتحاد الأوروبي. وعندما نفعل ذلك فسوف نجد أن هناك حلولاً لهذه المشكلة يمكن بيانها على النحو التالي: 1.استحداث وزارة مالية أوروبية. 2. إطلاق خطة "برادي" أوروبية (مسماة على اسم وزير الخزانة الأميركي الذي تفاوض في مباحثات إعادة هيكلة ديون أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي) على أن تتضمن هذه الخطة إصدار سندات خزانة أوروبية لمد فترة سداد ديون اليونان، والبرتغال، وإيرلندا 20 عاماً، وتوفير الأموال اللازمة للاستثمارات الأوروبية. 3. تقييم ضريبة قيمة مضافة أوروبية واسعة القاعدة بمعدل بسيط (1% ) للمساعدة على تجميع الأموال اللازمة لسداد الديون. وعلى الرغم من أن أوروبا في مجموعها تمتلك أكبر اقتصاد في العالم، إلا أنها ما تزال غير قادرة على المنافسة في عالم تهيمن عليه أميركا والصين ما لم تبادر إلى العمل على حل الأزمة الحالية والتصرف ككيان سياسي موحد. خلاصة القول إن حل التحدي الاقتصادي الذي تواجهه أوروبا هو حل سياسي. جاك اتالي مؤسس البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"