لا شك أن هؤلاء الذين أطلعوا على مقالات الرأي، وصفحات بريد القراء، والأبواب المالية والنقدية، في الصحف والمجلات الرصينة الشهيرة مثل "وول ستريت جورنال" و"فاينانشيال تايمز"، والـ"إيكونومست" قد لاحظوا خلال الآونة الأخيرة، ذلك الجدل المثير للانتباه الذي يتبلور، بين كبار رجال البنوك، والاقتصاديين حول الكيفية التي سيبدو بها عالمنا إذا فقد الدولار مكانته المتميزة باعتباره عملة الاحتياطي الوحيدة في العالم في الوقت الراهن، وأصبح واحداً من ضمن ثلاث عملات احتياطي(اليورو والرينمينبي). مجدداً تأجج هذا الجدل بسبب دراسة، نشرها البنك الدولي في 17 مايو الماضي، حول التحولات الكبرى في الموازين الاقتصادية العالمية، بعد أن تحول عدد من الدول الصاعدة مثل البرازيل وإندونيسيا وكوريا الجنوبية والهند إلى "محركات" رئيسية للنمو الاقتصادي العالمي، وبعد أن تخلت تلك الدول عن الدولار الأميركي كعملة احتياطي يتم الاحتفاظ بها لوقت الحاجة، وتتحول في الوقت الراهن إلى نظام العملات الاحتياطية الثلاثي، وهو ما يؤشر، كما أشارت "الفاينانشيال تايمز" في نفس اليوم الذي صدرت فيه دراسة البنك الدولي، على أن عصر هيمنة الدولار في طريقه للزوال. وهذا الجدل سوف يكتسب زخماً إضافياً بعد الملحق الخاص الذي أصدرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في الثاني من شهر يونيو الحالي، تضمن ما لا يقل عن 10 مقالات عن بروز القوة الصينية، وكيف أن التآكل المستمر في قيمة اليوان الصيني"الرينمينبي"، والفوائض الصينية الهائلة، سوف يُكسِب "اليوان" وضعية عملة الاحتياطي العالمي في فترة أقرب مما يتوقع كثيرون. وليس من شك أن هذه التوقعات ستكتسب المزيد من المصداقية بعد أن حذرت وكالة "مودي" للتصنيفات في الثاني من يونيو الجاري، من أنها قد تضطر لتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، إذا لم تتخذ هذه الأخيرة الإجراءات اللازمة لإصلاح العجز الهائل في موازنتها. وقد أدى ذلك - كما هو متوقع - إلى هجوم عصبي من قبل "الجمهوريين" على إدارة أوباما بسبب فشلها في تخفيض الإنفاق الفيدرالي، وهو ما رد عليه "الديمقراطيون" بالقول بأن معظم هذا العجز يرجع للسياسات الضريبية والإنفاق المسرف للحكومات "الجمهورية" السابقة. لاشك أن تخفيض أميركا الائتماني ليس بالشيء الطيب خصوصاً في الظروف الحالية التي يواجهها اقتصادها. ولكن دعونا أولاً نسأل أنفسنا سؤالاً هو: هل ذلك العالم الذي سيقوم على ثلاث عملات احتياطي (يتوقع أن يكون ذلك بحلول عام 2025 على وجه التقريب) سوف يتبلور بالفعل أم لن يتبلور كما يقول الكثيرون أيضاً الذين يرون أن الدولار سوف يحافظ على مكانته المميزة بسبب قوة أميركا الصلبة والمكانة التي تتبؤها في الساحة العالمية، ولأن العجز الحالي - وهو ما لم أتمكن من ابتلاعه بسهولة - سوف يتلاشى تدريجياً بشكل سلس. دعونا أيضاً نعلق الحكم على الموقف شديد الصعوبة والغباء الذي زج الاتحاد الأوروبي نفسه فيه بسبب السياسات الخاطئة، الذي يتبعها بخصوص معالجة العجوزات المالية لحكومات دوله الأعضاء الأكثر حماقة، ودعونا كذلك نتناسى كافة المشكلات التي يواجهها "اليوان"، ومدى قدرته الفعلية على التحول إلى عملة احتياطي عالمية قابلة للتداول. بعد أن نفعل ذلك، فإن جميع الحجج التي ستساق لن تزيد عن كونها حجج نظرية تجريبية، لكن بمقدور المهتمين أن يتخيلوا الكيفية التي سيبدو عليها العالم القائم على ثلاث عملات للاحتياطي. من المؤكد أن الانتقال لهذا العالم، لن يتم من دون اضطرابات مالية ومن دون رابحين وخاسرين. فحتى العملتين الذي يفترض أن يكونا رابحين من خلال اكتسابهما وضعية عملة الاحتياطي(اليوان واليورو) سوف يكونان خاسرين في نواحي أخرى، حيث من المتوقع في هذه الحالة أن يصطرعا مع بعض المسؤوليات الدولية، التي ظل بنك انجلترا يتحملها لمدة قرن كامل، وظلت وزارة الخزانة الأميركي وبنك الاحتياطي الفيدرالي يتحملها لما يقرب من 70 عاماً. ورأيي أن الرابحين الكبار في حالتنا هذه سوف يكونون هم المتداولون: أي أن هؤلاء الفاعلين الشديدي الذكاء، الأقوياء القلوب، العاملين في عالم اليوم الذي انتفت فيه الحدود، والذين ليس لديهم ولاء وطني، ولكنهم ينفقون كل ثانية في اليوم في البحث عن أي ميزة إضافية؛ هؤلاء المتداولون لا يتورعون عن المتاجرة ضد العملة الوطنية إلى حد إلحاق أضرار فادحة بها، ويمكنهم رفع أسعار الشحن العالمي بأنواعه المختلفة وخفضها كما يشاؤون. مع القدرة الفائقة التي يتسم بها هؤلاء المتداولون يصبح السؤال هو: ماهو العمل اليومي الذي سيقوم به هؤلاء في عالم يوجد به ثلاث عملات احتياطي، إذا لم يكن هذا العمل هو التلاعب بهذه العملات الواحدة تلو الأخرى؟ ألن يكون المديرون الأذكياء في صناديق الثروات السيادية في دول النفط الغنية راغبين في أن يصبحوا أقل اعتماداً على عملة احتياطي واحدة؟ ألن يرغب صندوق معاشات الموظفين النرويجي في ذلك؟ ألن يرغب فيه ملياردير روسي آخر؟ ولماذا لا تقوم بتوزيع ما تمتلك من بيض على أكثر من سلة واحدة؟ قبل كل شيء، فإن أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم بحلول 2025 سوف تكون على الترتيب -حسب التوقعات هي الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين. وطالما أن الأمر كذلك فما الذي يدعو دولة واحدة فقط من بين هذه الدول – وهي الولايات المتحدة - لتحمل عبء كونها هي الدولة صاحبة عملة الاحتياطي العالمي؟ على أي حال، لو تبلورت التوقعات القائلة بثلاث عملات احتياطي عالمية بحلول عام 2025، أو حتى بعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام، فإن التداعيات بالنسبة للولايات المتحدة - في جميع الأحوال- ستكون هائلة. ربما سيكون من الأفضل لواشنطن ألا تتحمل عبء عملة الاحتياطي العالمي، الذي يجعلها تترنح كمارد مرهق، ولكن هذا الانتقال سيأتي بتكلفة باهظة من دون شك. لقد ولت تلك الأيام التي كان يمكن للولايات المتحدة فيها أن تتغلب على أي عجز تواجهه من خلال طبع المزيد من الدولارات، كما لا تستطيع أي دولة في العالم أن تفعل. العالم بحلول عام 2025 سوف تكون لديه خيارات أخرى، ويمكن لـوكالة "مودي" وغيرها من الوكالات المتخصصة في التقييم الائتماني أن تستمر في تنزيل درجة الولايات المتحدة محولين إياها إلى دولة عادية تجد نفسها - وياللهول - مضطرة إلى اتباع نفس القواعد الرشيدة لإدارة شؤون الاقتصاد الداخلي التي يتبعها الآخرون في مجال الضرائب، والإنفاق، والعجوزات كما تفعل ألمانيا وسويسرا على سبيل المثال لا الحصر. يمكن لنا أن نتوقع أيضاً حدوث تغييرات أكثر تقلباً في قيمة الدولار على المستوى العالمي، وهو ما عانى منه البريطانيون جراء تقلبات الاسترليني منذ الخمسينيات وحتى اليوم، وهو أيضاً ما سيخلق مناخاً من عدم اليقين بالنسبة للصادرات الأميركية. في الحقيقة أن الشركات الأميركية العاملة في الساحة الدولية، قد تكون من ضمن أسرع الذاهبين إلى عالم به ثلاث عملات احتياطي، وإلا كيف سيتصرفون في الساحة الدولية إذا لم يفعلوا ذلك؟ لن يكون ذلك التحول إذن بالأمر السهل، وعدم قدرة السياسيين الأميركيين الصارخة على التفكير بطريقة استراتيجية قد يؤدي إلى تسريع حدوث هذا النظام العالمي الجديد، وغير المستقر، بل وغير الصديق أيضاً. خلاصة القول، إن هذه المقالات المبهمة نوعاً ما - ربما بسبب ما تحتوي عليه من مصطلحات فنية متخصصة - التي تظهر في الصحافة المتخصصة في شؤون المال والأعمال، قد تحمل أهمية أكبر بكثير لمستقبل الكوكب من تلك المقالات التي لا حصر لها عن آخر أنواع الـ "آي بود"، لأن الـ"آي بود" ليس سوى جهاز يتيح إمكانيات إضافية للفرد في حين أن العملات، هي التي تجعل عجلة هذا العالم تدور. بول كنيدي أستاذ التاريخ بجامعة "يل" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"