منذ بدأت التطورات الراهنة في عدد من بلدان الوطن العربي كان واضحاً أنها سببت قدراً يعتد به من الارتباك للجامعة العربية. في البدء كان قرار تأجيل القمة العربية الدورية التي كان مقرراً انعقادها في مارس الماضي في بغداد مرة لمدة شهر ونصف والثانية لمدة عام، وهو ما يعني أن القمة الدورية لعام 2011 قد ألغيت للمرة الأولى منذ إقرار مبدأ هذه الدورية في القمة العربية التي انعقدت في القاهرة في أكتوبر 2000. كان قرار الإلغاء منطقيّاً لأن انعقاد القمة في الظروف الراهنة كان سيحيلها إلى ساحة سجال بين مؤيدي التغيير ومعارضيه مما يعمق الخلافات العربية- العربية، فضلاً عن أنها لو انعقدت لواجهت موقفاً لم تواجهه قمة أخرى سابقة وهو موجة التغيير الداخلي في الوطن العربي، فقد كانت مهمتها في السابق دوماً مواجهة تحديات خارجية للوطن العربي وأمنه. لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما اتخذ مجلس الجامعة على مستوى المندوبين الدائمين قراراً بتعليق مشاركة ليبيا في كافة اجتماعات الجامعة العربية ومؤسساتها، وهو من القرارات النادرة في تاريخ الجامعة، إذ يكاد يكون ثالث قرار من نوعه بعد تعليق عضوية جمهورية جنوب اليمن عقب اتهام قادتها بالتورط في اغتيال رئيس اليمن الشمالي عام 1978، وتعليق عضوية مصر بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، وكلا القرارين يرتبط بواقعة ذات صلة بالعلاقات بين الدول، وليس بالأوضاع الداخلية في إحدى الدول الأعضاء كما هو الحال في ليبيا. وعلى رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تصادف فيها الجامعة العربية مرحلة تغيير ثوري في الوطن العربي، إذ مرت عليها من قبل موجة تغيير الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فإن أثر هذه الموجة الأخيرة على الجامعة كان محدوداً إذا قورن بما يحدث الآن، وربما يرجع ذلك إلى أن آلية التغيير -كما في الثورتين المصرية 1952 والعراقية 1958- كانت تبدأ بالجيش الذي يسيطر بسرعة على الأمور، خاصة أن التغيير كان مطلباً شعبيّاً، وبالتالي فإن تلك الثورات لم تسبب حرجاً يذكر للجامعة العربية لأن نظم الحكم كانت تتغير بين يوم وليلة، أما الآن فإن مخاض التغيير يطول أمده، ودرجة العنف المستخدم في محاولة وأده عالية للغاية الأمر الذي يسبب حرجاً شديداً للجامعة العربية على الأقل لأنها يجب أن تفعل أي شيء إزاء ممارسات بعض النظم ضد شعوبها على نحو ينطوي على إفراط في استخدام العنف. وكذلك فإن القوة القائدة للتغيير في ذلك الوقت، وهي مصر، حرصت على أن تبقى الجامعة العربية بعيدة قدر المستطاع عن تداعيات هذا التغيير، محافظة للجامعة على دورها القومي في مواجهة التحديات الخارجية (كإسرائيل)، أو المخاطر التي تهدد النظام العربي من داخله (كما في أزمة المطالبة العراقية الأولى بالكويت في 1961)، وربما لم يشذ عن هذا الاتجاه العام سوى الثورة اليمنية (1962) التي واجهت حرباً أهلية، إذ ناصبتها العداء القوى التقليدية المضادة للثورة بدعم خارجي غير مباشر، فيما كانت مصر تؤيد الثورة اليمنية مباشرة بقوات عسكرية في مواجهة خصوم الثورة، وبسبب طول أمد الصراع حول هذه الثورة فإنه وجد طريقه إلى الجامعة العربية، وإن كان الوزن القيادي لمصر آنذاك قد جعل جهود الجامعة تقتصر على وساطة هادئة لم تكن لها أية تداعيات سلبية على الجامعة. وفي السياق السابق اتخذ مجلس الجامعة على المستوى الوزاري قراراً غير مسبوق بالتدخل في ليبيا حماية لشعبها غير أنه وضع مفاتيح هذا القرار في أيدي مجلس الأمن الذي وافق على التدخل العسكري لفرض حظر جوي على قوات العقيد القذافي، وانتهى الأمر بالتنفيذ إلى أن آل إلى حلف شمال الأطلسي وتجاوز فكرة الحظر الجوي إلى محاولة تدمير الذراع العسكرية للعقيد القذافي، وربما ساعدت العلاقات العربية السيئة -أو على الأقل غير المستقرة- للنظام الليبي، وكذلك رغبة الثوار الليبيين في التدخل الخارجي على تمرير القرار عربيّاً، وإن بدأ النقد يتصاعد بالتدريج بما في ذلك من قبل الثوار أنفسهم لأداء حلف الأطلسي. تأخر صدور قرار مماثل في الحالة السورية، ربما بسبب وزن سوريا في النظام العربي ومواقفها الصلبة تجاه إسرائيل ودورها في دعم المقاومة اللبنانية، غير أن تصاعد استخدام العنف في سوريا مع عدم وجود نهاية زمنية واضحة لما يجري فيها من تطورات قد فرضا تأثيرهما على الجامعة، وقد أفاد تقرير نشرته كبرى الصحف المصرية في الرابع عشر من هذا الشهر بأن بعض أعضاء الجامعة قد تقدم بمشروع قرار لتعليق مشاركة سوريا في اجتماعات مجلس الجامعة وجميع مؤسساتها احتجاجاً على استمرار أعمال القمع التي يقوم بها الجيش السوري وقوات الأمن ضد المتظاهرين المطالبين بالتغيير والإصلاح، أسوة بقرار مجلس الجامعة بشأن الحالة الليبية، وتفاديّاً لتدويل الوضع السوري من خلال مجلس الأمن. وأوضح التقرير أن مجلس الجامعة يواجه خلافات حادة بين أعضائه في هذا الصدد، حيث تعارض الدول المحيطة بسوريا مشروع القرار بقوة خوفاً من أن يؤدي حال صدوره إلى أزمات وقلاقل في هذه الدول، خاصة تلك التي لها تداخلات ديموغرافية مع سوريا، وكذلك أشار التقرير إلى أن بعض الدول العربية قد طلب وقف أي تدخل للجامعة في أحداث سوريا حتى لا يؤثر ذلك على الوساطة التي تقوم بها تلك الدول لإنهاء الأزمة هناك. ومن جانبه وصف عمرو موسى الأمين العام للجامعة الوضع في سوريا بأنه خطير للغاية مؤكداً أنه محل قلق عميق من جانب كل الدول العربية خاصة مع تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، وصرح موسى في هذا السياق للصحفيين بأن الوضع يشير إلى وجود اضطراب كبير، وكشف عن مشاورات واتصالات عربية مكثفة بشأن ما يجري في سوريا. وقد ردت السلطات السورية على هذه التصريحات بأن عمرو موسى يريد أن يستغل الوضع في سوريا من أجل إعطاء زخم لحملته الانتخابية الرئاسية في مصر، غير أن الأمين العام ثابر على تصريحاته المعبرة عن القلق الشديد لما يجري في سوريا. وما زالت أزمة الجامعة معرضة للتفاقم، إذ لا توجد نهاية واضحة حتى الآن للوضع في ليبيا وسوريا، كما أن الوضع في اليمن لا يختلف عن الوضع في هذين البلدين إلا في الدرجة، وثمة إرهاصات أخرى لمزيد من الحركات المطالبة بالتغيير. وحتى إذا أفلتت الجامعة من تأثير مرحلة مخاض التغيير فإنها بالتأكيد لن تستطيع أن تتفادى لاحقاً نظم الحكم الجديدة الممثلة لبعض أعضائها، وقد يؤدي وجود هذه النظم داخل مؤسسات الجامعة إلى ترشيد أدائها -كما في حالة الصراع العربي/الإسرائيلي- ولكنه بالتأكيد سيسبب استقطاباً سياسيّاً ربما تكون له تداعيات بالغة الإضرار ببنية الجامعة وتفاعلاتها. كثيراً ما كان البعض يسأل عندما كانت مظاهر العجز في الجامعة العربية تشتد: هل نهدمها تماماً ثم نعيد بناءها من جديد؟ وكانت الإجابة العاقلة عادة هي إننا إذا هدمنا الجامعة قد لا نستطيع إعادة بنائها أصلاً. أما الآن فيبدو أن سؤال الحاضر والمستقبل هو: كيف نعيد تكييف الجامعة العربية بحيث تتواكب مع موجة التغيير الراهنة في الوطن العربي على الرغم من أنها في الأصل والأساس جامعة حكومات؟