في البلدان التي تعرضت لتحولات كبرى، تخرج علينا هذه الأيام الكثير من التقارير والمقالات عن حقيقة الوضع الاقتصادي الناجم عن هذه التحولات، التي مرت بها بعض الشعوب العربية خلال الآونة الأخيرة. هذه الكتابات تتحدث عن أن التغيرات لا تأتي بالأموال، ولا تحل المشاكل الاقتصادية، وأنها خلقت وضعاً متدهوراً من الناحية الاقتصادية قد يمتد لعدة سنوات. ولكن هذه التقارير المتخصصة لم تتطرق إلى بدائل، فهل الوضع السابق، في هذه البلدان، يعني أن هناك انتكاسة اقتصادية في ظل نظام سياسي فاسد ينهب حتى الأكسجين من الهواء؟ وكأن لسان حال هذه الشعوب يقول أنا الغريق فما خوفي من البلل، بمعنى أن الجائع في تلك البلدان ليس لديه شيء يفقده غير روحه، وما أرخص الروح عنده كي يقدمها فداء للحرية، التي صارت مطلباً ملحاً بعد طول تنازلات وصمت تحول اليوم إلى هتاف لا يعرف الخوف. وإذا كان الكابوس هو الفشل المتوقع، فإن الحال الذي عليه الوضع الاقتصادي اليوم ليس أفضل، أنها ذات الحكاية، أشخاص متنفذون وأموال منهوبة وأحلام بسيطة سفكت على موائد، وبطالة تجعل البعض يشكو. لا بأس من قيام الخبراء في الدول التي شهدت تحولات في أنظمتها السياسية بقراءة اقتصادية تنظر للمستقبل وتخطط له، وتضمن الخروج بأبعاد استراتيجية لا بد أن يتم العمل من خلالها. ولكن دون التركيز كثيراً على مقولة: ماذا لو؟ والبعد عن تحطيم المعنويات بتكرار مفردات توغل في سرد تبعات الفقر والبطالة، لأنها مثيرة للضحك، ولأنها ببساطة لا تعكس إلا واقعاً مراً لا يعني أبداً النجاح في التنظير، فهناك أصوات تقرأ في ثنايا خطابها تعجيزاً، لكن هناك أصواتاً أخرى تجعل من المستقبل فرصة لحياة جديدة مهما كانت الصعاب التي تتعرض لها هذه الشعوب. فالتحولات ليس نزهة، إنها ولادة متعسرة مخاضها صعب، ولكن النتيجة ستظهر بعد سنوات من إعادة البناء وتطهير الأرض والمال. ولو استمر الحال على ما هو عليه، لكان الوضع أسوأ واليأس سيتحول إلى حالة عامة يتيح نتيجة متراجعة وشعب يفتقر بإنتاجية تذكر على المدى الطويل. وفي تلك البلدان عندما يقرر الشعب ويفصح عن احتجاجه في وجه السلطة، فإن هذا القرار ينبغي على متخذيه أن يكونوا مدركين تماماً للأبعاد المترتبة عليه، ويدرك أيضاً أن نضج شعب جعل له فرصة الاختيار، فلم تكن الاحتجاجات جاءت لتقليد عمل ما، أو أن تذهب لمنحنى اعتباطي يتحرك فقط لإثبات رأي لا أكثر، إنها كانت نابعة من قرار شعبي يدرك تمام الإدراك ماذا يعني قرار تغيير النظام. وشعوب من هذا النوع ليست بحاجة إلى وصاية من أي كان، حتى لو كان من علماء الفكر والاقتصاد، ففي هذه الحالة المسألة بحاجة إلى تحديد، وأيضاً إلى وضع الأمور في نصابها وإلى عدم تحميل الآخر ما لا يطيق. هذه الشعوب ترى أن عهد الوصاية عليها قد ولى، ولم يعد هناك شعب لم يشب عن الطوق، والحديث عن الاقتصاد يخص هذه الشعوب بذاتها، فتلك الشعوب لا تحتاج إلى منظرين أو متنفذين، أو حتى مهددين بدمار الاقتصاد. بالنسبة لتلك الشعوب هناك بدائل بالضرورة، ولكن ليس من بينها الحفاظ على ما هو كائن، لأن هذا قد يعني لها الاستسلام والقبول بالفشل.