لا جديد لدى النظام في سوريا، الأسلوب ذاته منذ بدء الاحتجاجات، قمعٌ وعنفٌ وتقتيل على الأرض مع وعودٍ صغيرة بالإصلاح بدأ صوتها يخفت ويتضاءل تحت ضجيج مجنزرات الجيش الباسل الذي يقتل مواطنيه دون أن يرفّ له جفنٌ. الجديد جاء من خارج سوريا حيث تبدو تركيا هي القائد الفعلي للموقف تجاه النظام السوري إقليمياً ودولياً، كما أنّها رغم شيء من المحاباة للنظام ليشرع في إصلاحاتٍ كبرى بدت وكأنّها سئمت من هذا الدور، فأرسلت حسب مصادر إعلامية "آخر رسالة تحذير" إلى الأسد، طالبته فيها بـ"إطلاق حرية التظاهر وحرية التعبير ورفع الحظر المفروض على الأحزاب السياسية فوراً" وبالطبع أشارت إلى أنّ في مقدمة هذه الأحزاب "الإخوان المسلمون" وهذا معروف في موقف تركيا الداعم لإخوان سوريا، ولكنّ الرسالة أضافت مطالبةً جريئةً للرئيس السوري بـ "إبعاد ماهر الأسد عن جميع مراكز السلطة" مع عرضٍ لاستقباله كمتقاعدٍ وتأمين ملاذٍ آمنٍ له. الرسالة الثانية تلقّاها النظام من هيلاري كلينتون التي نشرتها مقالاً خصت به صحيفة "الشرق الأوسط"، كان أهمّ ما ورد فيه قولها: "إذا كان الأسد يعتقد أنه يستطيع المضي فيما يقوم به دون عقابٍ لأن المجتمع الدولي يأمل في تعاونه في القضايا الأخرى، فهو مخطيء. ومن المؤكد أنّه يمكن الاستغناء عنه وعن نظامه" وفي المقال تقدّم طفيف في السياسة الأميركية تجاه سوريا إلا أنّ نشره باللغة العربية –فقط- يثير شيئاً من الشكوك حول جدّيته، لأن القضايا الأخرى أهمها لأميركا هو إسرائيل. شهدت تركيا انتخاباتٍ عسيرةٍ كان يأمل منها حزب "العدالة والتنمية" وأردوغان أن يحصلوا على أغلبية مريحةٍ تمكّنهم من تعديل الدستور بمفردهم، ولكنّ وعي الشعب التركي المتحضر لم يمنحهم الأغلبية المطلوبة وأجبرهم على التشارك مع الأحزاب الأخرى لتكون التعديلات الدستورية ممثلة لجميع توجهات المجتمع التركي، فالصراع على الدستور في تركيا يعني الصراع على مستقبل البلاد برمّتها، ما دفع أردوغان إلى الإقرار بحاجته للتفاوض والتشاور فأعرب عن تفهمه لرغبة الشعب التركي بدستورٍ جديد يصدر مشاركةً لا انفراداً. صراعٌ آخر على الدستور يجري في مصر فثمة تخوّفات حقيقية لدى بعض الأحزاب والنخب المصرية من سيطرة الأصوليين على مقاليد الحكم من خلال الانتخابات ومن ثمّ يعدّلون الدستور لوحدهم، لهذا يطالبون بأن يكون "الدستور أولاً" ثم تجرى الانتخابات، ولا يستطيعون الرهان على وعي الشارع –الآن- فهو وعي مختطف أصولياً ولا يشبه بحالٍ الوعي التركي، والمعركة هناك على أشدّها بين جمع توقيعات مليونية ودعوات لجمعةٍ مليونية تحت اسم "الدستور أولاً" من جانب القوى الليبرالية وهو ما تعارضه الجماعات الإسلامية كالإخوان والسلفيين ممن يريدون "الانتخابات أولاً" ليخلو لهم الجوّ. وثالثة أخرى جرت هناك في أقصى المغرب العربي حين أعلن الملك محمد السادس عن تعديلاتٍ دستوريةٍ كبرى وتحويل بلاده إلى "ملكية دستورية ديموقراطية برلمانية اجتماعية"، وقد احتفى كثير من قيادات الأحزاب السياسية المغربية بهذه التعديلات فاعتبر عبدالإله بنكيران الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية"، "أن مشروع الدستور استجاب لأغلبية المطالب التي تقدّمت بها الأحزاب السياسية"، كما اعتبر حزب الأصالة والمعاصرة أنّ هذه التعديلات الدستورية "غير مسبوقةٍ في تاريخ المغرب". وبالمثل عبّرت النخب السياسية في المغرب عن الارتياح لهذا التعديل الدستوري، وأعلن عباس الفاسي زعيم حزب الاستقلال ورئيس الوزراء بأنّ الدستور الجديد "غيّر كلّ شيء في العمق لمصلحة الديموقراطية واستقلال القضاء وتخليق الحياة العامة والحوكمة" ما يعني تأييد كافة التيارات حكومةً ومعارضةً باستثناء بعض شباب حركة 20 فبراير، وفي الوعي يأتي تصريح محمد اليازغي القيادي في الاتحاد الاشتراكي بأن الدستور الجديد "يحتاج إلى قوى سياسية متقدمةٍ ... ووعيٍ شعبيٍ". جرّني هذا الحراك الدستوري الواسع إلى العودة للدستور السوري الصادر عام 1973 ومقارنته بما يجري على الأرض السورية، الدستور يقول: "القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن" مادة 11، والواقع يقول إنّ هذه القوات تلاحق المواطن في كل مكانٍ من أرض الوطن. الدستور يقول: "الدولة في خدمة الشعب" 12 والواقع يقول: الدولة تقتل الشعب. الدستور يقول: "الحرية حق مقدّس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم" 25 والواقع يقول إنّ اضطهاد المواطنين أصبح واجباً مقدّساً. المادة 28 تقول: "لا يجوز تعذيب أحدٍ جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة" والواقع يضج بدماء الأطفال حمزة الخطيب وثامر الشرعي، وأسماء بلا حصر ولا عدٍ. المادة 31 تقول: "المساكن مصونةٌ لا يجوز دخولها أو تفتيشها" والواقع يقول إنّ النظام لا يدخل البيوت ولكن قذائف دباباته تفعل. المادة 39 تقول: "للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلمياً" والواقع يقول إنّ النظام يقرّ بهذا الحق ولكنّه يضيف أنه سيقتل كل من يمارس هذا الحق. إنّ حجم التناقض في سوريا بين الدستور والواقع لا يثير الدهشة بل يدعو للامتعاض والألم، تناقضٌ يستثير الكوميديا السوداء، ويدعو لإعادة التفكير في الموقف تجاهه لدى عقلاء العرب، وأن تكون تصريحات عمرو موسى هي مجرد بداية لمواقف أصرح وأوضح. الدستور في تركيا مختلف عن الدساتير العربية فهو دستور مدني صريح مقابل دساتير عربية تجمع بين البعثي والقومي والاشتراكي والديني، مع هذا فإننا يجب أن نقرّ بأن الدستور المدني لم يحم تركيا من الاستبداد وحده، بل حماها أكثر وعي الشعب بألا يطلق يد حزبٍ واحدٍ لتشكيل الهوية السياسية للدولة. غالب الدساتير في العالم تتسم بالاستقرار والثبات، مع شيء من المرونة طويلة المدى التي تسمح بتغييراتٍ على الدستور حين تستوجبها تطوّرات التاريخ وتجدد حاجات المجتمعات ومصالح الدول، أمّا الدساتير العربية فيتمّ تغييرها بين طرفة عينٍ وانتباهاتها حين تقتضي حاجة النظام، وتتعفّن وتتكلّس موادها حين تكون في خدمته، والدستور السوري خير مثالٍ فبعد وفاة الأسد الأب تمّ تغيير المادة 83 التي كانت تنصّ على أن عمر رئيس الدولة يجب أن يتجاوز الأربعين لتصبح المادة في يومٍ واحدٍ بجلسةٍ واحدةٍ للبرلمان كالتالي: "يشترط في من يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربياً سورياً ... متمماً الرابعة والثلاثين عاماً من عمره" لتصبح مفصلةً على عمر الرئيس بشار الأسد آنذاك. لم يتغير الوضع كثيراً بعد سقوط بعض الأنظمة العربية جرّاء الثورات أو الانتفاضات ففي مصر مثلاً تمّ إجراء الاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور بسرعةٍ كبيرةٍ وعجلةٍ من الأمر لخدمة بعض التيارات الأصولية المتصالحة مع المجلس العسكري. وللتأكيد على أنّ وعي الشعوب أهمّ من الدستور نفسه فلنأخذ العراق مثالاً، فقد تغيّر دستوره ولكنّ وعي الشعب لم يتغيّر فبقي يراوح مكانه وربما تقهقر دوره في خدمة العراق الحديث ومعادلات التنمية وحقوق الإنسان والحضارة. إنّ بناء وعي الشعوب مهمةٌ أصعب من بناء الدساتير، ولئن أخذت كتابة الدساتير شهوراً فإنّ خلق الوعي يتطلّب دهوراً، وبين البنائين تتحدد مصائر شعوبٍ ودولٍ وأمم.