في ظل الربيع العربي تبرز الكويت في سياق حراكها السياسي مختلفة إلى حد كبير عما يموج في الكثير من الدول العربية. لا يطالب أحد في الكويت بتغيير النظام، أو يشكك في شرعيته، بل هناك مطالبات بتطويره وتحصينه بإصلاحات واضحة ومحددة. لقد سطرنا في هذه المساحة العديد من المقالات الناقدة عن العلاقة المحتقنة بين الحكومة ومجلس الأمة المنتخب. وطالبنا بألا تفقد الكويت قوتها الناعمة كنظام سياسي، ودستور، وانتخابات، وحريات، ومساءلة، وتشريع، وقوة الطاقة والاستثمارات وصناديق السيادة، كنموذج رائد ومُلهم. وأن يتم توظيف ذلك كله بشكل فعال وخلاق لتعوض افتقادها للقوة الصلبة العسكرية. ولكن النظام السياسي في الكويت استمر بحرق المراحل بين حكومة تكرر مواقفها وتُشكل على أساس المحاصصة والتمسك بثوابت بات من الضروري إعادة النظر فيها، وخاصة خلال الأعوام الخمسة الماضية التي شهدت تشكيل سبع حكومات برئاسة سمو الشيخ ناصر الصباح، الذي وجهت له، في سابقة تاريخية، تسعة استجوابات، والعاشر على الطريق، ووجه كذلك لوزرائه أكثر من ضعف ذلك العدد من الاستجوابات. كما تم حل ثلاثة مجالس أمة متتالية. وأجريت انتخابات مبكرة خلال تلك الفترة أيضاً. ولو كان في الكويت مركز لاستطلاع الرأي لكان رضا الناخب الكويتي عن الحكومة والمجلس منخفضاً إلى درجة مقلقة. وفي الأسبوع الماضي تم استجواب رئيس الوزراء من قبل ثلاثة نواب إسلاميين، ولأول مرة عن شأن أمني وخارجي، وعن تراخي حكومة الكويت في التعامل مع الجارة إيران. وقبلها أدى استجواب أحد الوزراء الرئيسيين في الحكومة -نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الشيخ أحمد الفهد الصباح، من نواب التكتل الوطني، إلى تقديم استقالته، مع أنه المسؤول المباشر عن خطة التنمية الخماسية التي تتجاوز قيمتها 130 مليار دولار. والواقع أن هناك احتقاناً سياسيّاً بين السلطتين، بات مضرّاً وطارداً ومعيقاً ومسيئاً للنموذج، والتجربة البرلمانية، والمشاركة السياسية الكويتية التي تقترب من يوبيلها الذهبي. ومع ذلك يبرز التعثر، وتبرز ندوب وآثار المواجهات والمعارك والتقسيم والمحاصصة على محياها. كل ذلك دفع سمو الأمير، وهو الحكَم بين السلطات، إلى أن يقرع سموه جرس إنذار غير مسبوق يوم الأربعاء الماضي، محذراً من الفوضى والانفلات والمشاحنات التي تهدد أمن الكويت ومقدراتها ومكتسباتها، وتهدد بانحراف التجربة الكويتية. وذلك بسبب ممارسات "بالغة السوء والضرر.. تخرج عن نطاق الدستور وتتجاوز مقتضيات المصلحة الوطنية وتتسم بالتعسف وتسجيل المواقف وتصفية الحسابات والشخصانية المقيتة... وانحدار لغة الحوار والتخاطب وانتهاك الدستور والقانون وتجاوز ضوابط الحرية وحدودها لتطال حرية الآخرين والمساس بكراماتهم، والإساءة إلى دول شقيقة وصديقة..". ثم تساءل سمو أمير دولة الكويت في خطاب لاذع وناقد لما آلت إليه الأوضاع السياسية والعلاقة بين السلطتين في البلاد: "إلى أين نحن ماضون؟ وماذا يُراد بكويتنا الغالية؟"، واستطرد: "سؤال يتردد في ذهن كل كويتي مخلص لوطنه بعد أن بلغ السيل الزبى، وأصبح الجميع رهين مشاعر القلق والإحباط". والراهن أن تحذيرات سمو الأمير مما آلت إليه الأوضاع ليست جديدة، بتعبيره عن القلق والمخاوف والمواجهات المستمرة التي لا تهدأ إلا لتعود، ولا تستكين حتى تنفجر من جديد. ولكن جذور المأزق وانسداد الأفق السياسي في الكويت يكمن في النظام السياسي الذي يمزج أنظمة متعددة. فلا هو بالبرلماني ولا هو الرئاسي. ولا هو بالملكية الدستورية. بل هو مزيج من ذلك كله. ولهذا لا تملك الحكومة ولا مجلس الأمة الأغلبية المطلوبة التي تمكّنها من العمل لمدة الفصل التشريعي للسنوات الأربع لمجلس الأمة بعيداً عن أمواج الاستجوابات والمواجهات المتلاطمة، مما يبقي الحكومة المعينة مكشوفة الظهر وغير ممثلة بشكل كافٍ داخل البرلمان ليكفل للحكومة الغطاء والدعم. كما لا تعكس طريقة تشكيل وتركيبة الحكومة والتجانس وأوزان القوى السياسية التي تشكل مجلس الأمة. ولذلك تبدو الحكومة في كثير من الأحيان فاقدة للتوازن ومعرضة لسهام الاستجوابات، وتتعرض لمساومات وابتزاز النواب في كثير من الأحيان. وكذلك لا يملك مجلس الأمة بدوره أغلبية تمكّنه من التشريع. ولا يعطي الدستور الكويتي مجلس الأمة الحق في منح الثقة وحجبها عن الحكومة، بل عن الوزير بمفرده، وعن رئيس الوزراء بشخصه. وأقوى سلاح يملكه مجلس الأمة هو الاستجواب للوزراء. وهو سؤال مغلظ يصل إلى طرح الثقة وإقالة الوزير المستجوب. وكثرة الاستجوابات -وقد سجل ثلثاها خلال الأعوام العشرين الماضية، وثلثها خلال الأعوام الثمانية والعشرين التي سبقتها- ليست حلاً طبعاً. فلذلك تطغى الرقابة على التشريع في مجلس الأمة. وتتشكل الكتل السياسية داخل البرلمان وليس خارجه. كما في الأنظمة السياسية. ولكل هذه الأسباب كثرت المطالبات والحديث في السنوات الأخيرة عن الحاجة إلى تشكيل الأحزاب السياسية، وتقنين العمل البرلماني، وتشكيل حكومة من الأحزاب تعكس الأوزان والقوى السياسية داخل البرلمان مما يقوي ويحصن الحكومة في وجه المواجهات والاستجوابات التي زادت وتيرتها وعددها وباتت محبطة ومعيقة للتقدم وإحداث النقلة النوعية في العمل السياسي الكويتي. ولكن المعضلة أن فكرة تشريع الأحزاب السياسية على رغم وجود نواتها وممارساتها بالقوى السياسية الموجودة لا تجد دعماً شعبيّاً أو قبولًا إلا لدى بعض النخب السياسية والمثقفة إذ توجد حساسية مفرطة منها، لا بل إن هناك رفضاً للأحزاب السياسية. وعلى رغم اقترابنا من اليوبيل الذهبي للتجربة البرلمانية، إلا أنها لا يمكن أن تكتمل وتتقدم بغياب مؤسسة الأحزاب أو الأطر السياسية بحكم كونها الوعاء الذي يذيب جميع النتوءات الطائفية والمذهبية والقبلية التي بدأت تستشري وتصبح كيانات يستقوى بها أتباعها. وقد أصبحت أقوى من الدولة نفسها، ولم يعد مجموعها وتعددها يخدم الوحدة الوطنية، بل يضعفها. إن ما تمر فيه الكويت يشكل مرحلة صعبة، وإن كان لابد منها في التطور والتحول السياسي للمجتمعات الناشئة. وهو ما شهدته جميع المجتمعات التي نراها اليوم ديمقراطيات راسخة ومستقرة وقوية في الغرب. والمطلوب اليوم هو تضافر الجهود والتعلم من الأخطاء لقول سمو الأمير: "الحكيم من اتعظ بغيره"، وإدخال تعديلات دستورية تقوي نظام المشاركة، وتنتقل بالكويت إلى المرحلة التالية من التطور الديمقراطي الطبيعي والتراكمي، دون المبالغة في التشاؤم أو الإفراط في استخدام وتوظيف الأدوات الدستورية، حتى لا تتحول التجربة الكويتية المميزة من نعمة إلى نقمة. وحتى لا يعزف عنها الكويتيون، ويراها الآخرون نموذجاً فاشلاً.