أعلن مجلس الأمن الدولي دعمه تولي بان كي مون ولاية ثانية على رأس منظمة الأمم المتحدة، وذلك خلال اجتماع عُقد الجمعة الماضي على نحو يذكر باللقاء الكنسي لاختيار البابا، لكن بدلاً من الدخان الأبيض، فقد انفض الاجتماع خلال أقل من ثلاث دقائق ليخرج سفير الجابون، الرئيس الدوري للمجلس، ويعلن أن المجلس أجمع على التوصية بولاية ثانية لمون، وأنه أرسل توصيته للجمعية العامة التي ستقوم غداً الثلاثاء بإعادة انتخاب مون مجدداً. وكان مون قد أعلن في مؤتمر صحفي يوم السادس من يونيو الجاري عن ترشيح نفسه لولاية ثانية، وقال إنه بعث برسالة إلى دول الأمم المتحدة "لعرض نفسي، بكل تواضع، للترشح لولاية ثانية"، وتحدث في ذلك المؤتمر عن إنجازات ولايته الأولى وما يأمله خلال الولاية الثانية. لكن من هو مون؟ وما أهم إنجازاته على رأس المنظمة الدولية؟ إنه أمين عام الأمم المتحدة منذ مطلع يناير 2007 عندما حل محل أمينها العام السابق كوفي عنان، وجاء حاملاً معه 40 عاماً من الخبرة الدبلوماسية، سواء كوزير خارجية لبلاده كوريا الجنوبية أو كأحد دبلوماسييها في الأمم المتحدة. وقد ولد مون عام 1944 لعائلة مزارعة مسيحية بمقاطعة "أومسيونك" في كوريا الجنوبية حين كانت خاضعة لسيطرة اليابان، وحصل على الإجازة في العلوم السياسية من جامعة سول الوطنية عام 1970، ثم شهادة الماجستير في الإدارة العامة من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة عام 1985. وبدأ مون مسيرته الدبلوماسية موظفاً في سفارة بلده بنيودلهي عام 1971، وفي عام 1978 أصبح السكرتير الأول لبعثة كوريا الجنوبية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم عاد إلى سول عام 1980 كمدير لمكتب المنظمات الدولية في وزارة الخارجية. وبعد ثلاث سنوات أصبح عضواً في مجلس الأمن الوطني. وتولى مون مهام دبلوماسية في سفارة بلاده بواشنطن في فترتين منفصلتين تخللتهما بين عامي 1990 و1992 فترة شغل خلالها منصب المدير العام للشؤون الأميركية بوزارة الخارجية. ثم أصبح نائب وزير الخارجية لشؤون التخطيط والمنظمات الدولية عام 1995، وفي العام التالي عُين مستشاراً رئاسياً لشؤون الأمن الوطني، قبل تعيينه سفيراً في النمسا عام 1999، ليعود في العام التالي نائب وزير، ثم مستشاراً بالرئاسة لشؤون السياسة الدولية. وأثناء رئاسة كوريا الجنوبية الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001 تولى بان مهام رئيس جهاز معاوني رئيسها "هان سينج سوو". وفي يناير 2004 عين وزيراً للخارجية فلعب دوراً محورياً في الجهود الدبلوماسية الهادفة إلى معالجة الملف النووي لكوريا الشمالية، فساهم عام 2005 في تحقيق اتفاق تاريخي يهدف لتعزيز السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، وهو موضوع طالما شكل هماً مؤرقاً للأمم المتحدة. وفي عام 2006 كانت أجواء الأمم المتحدة ملبدة بفضيحة النفط مقابل الغذاء، وكان عنان غير راغب في ولاية جديدة، وواشنطن غير راضية عن موقفه من غزوها العراق، وكانت ثمة دعوات لإصلاح المنظمة الدولية التي يعتقد كثيرون أنها أصبحت أداة لخدمة السياسات الأميركية... مما قلل فاعلية المنظمة وأوقعها في أزمات، ودفع الكثيرين للمطالبة بإصلاح يحسن أداءها ويعيد صياغة بنائها، بما في ذلك صلاحيات أمينها العام نفسه. وكان الاتجاه السائد في حينه أن يكون الأمين العام التالي من آسيا التي لم تحصل على هذا المنصب منذ البورمي "يوثانت" (1961 -1971)... فأعلنت كوريا الجنوبية اسم وزير خارجيتها مرشحاً للمنصب، ليتنافس مع سبعة مرشحين آسيويين آخرين. وفي 9 أكتوبر 2006، صوت 14 من أعضاء مجلس الأمن الـ15 على توصية باختياره أميناً عاماً للأمم المتحدة، فتم إرسال اسمه إلى الجمعية العامة (192 عضواً) للموافقة عليه في تصويت نهائي. وبعد مضي أربع سنوات ونصف السنة عليه كأمين عاماً للأمم المتحدة، يقول مون عن هذه الفترة إنها "كانت فترة من التحدي بالنسبة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي"، ومع ذلك "نستطيع أن نفخر بما أنجزناه معاً. لقد رفعنا مسألة التغير المناخي إلى رأس الأجندة العالمية، واستجبنا بشكل سريع وفاعل للمناطق التي شهدت حالات طوارئ إنسانية مدمرة"، مشيراً بصفة خاصة إلى بورما وهايتي وباكستان. ثم يتابع: "لقد أنقذنا العديد من الأشخاص، وزرعنا بذور السلام في السودان والصومال وجمهورية الكونغو الديموقراطية وساحل العاج، ويجب أن نرعى هذه البذور". خلال هذه السنوات ظل مون يجوب العالم بلا توقف، ويقول عنه أحد مساعديه: "خلال السفر، دائماً هو أول من يستيقظ من النوم وآخر من ينام"، أما في نيويورك فـ"يصل مكتبه عند الساعة السابعة صباحاً، ويغادره قرابة الثامنة مساء"، كما يتعين على المتحدث باسمه النهوض يومياً عند الساعة الرابعة فجراً للقيام بجرد لصحف العالم وتقديم تقرير حول أهم التطورات العالمية. ومع ذلك فثمة مآخذ وانتقادات يوجهها البعض لمون، منها أنه حرص على عدم إغضاب الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي بأيديها قرار ترشيحه، وأنه ظل أقرب إلى الولايات المتحدة منه إلى باقي الدول الأخرى، كما جامل الصين رغم سجلها في حقوق الإنسان. أما المآخذ على موقفه من معاناة الشعب الفلسطيني ومجاملاته لإسرائيل في أحايين كثيرة، فمعروفة للجميع. ويعرف عن مون افتقاره للكاريزما وللشخصية القوية، وكذلك بيروقراطيته الشديدة وغرقه في التفاصيل على حساب المواضيع الهامة. لكن بالمقابل، من المعلوم أن الأمانة العامة للأمم المتحدة، وفق النصوص التأسيسية للمنظمة منذ إنشائها عام 1945، ليست أكثر من سكرتيريا تنفيذية لمجلس الأمن والجمعية العامة، وأن أمينها العام موظف بيروقراطي يدير آلاف الموظفين ومئات المكاتب والفرق والبعثات في أنحاء العالم. وهو وضع لم تغيره الإصلاحات الطفيفة التي أُدخلت عام 2008. ورغم ذلك فقد تحسنت مؤخراً صورة مون في أعين المدافعين عن حقوق الإنسان بسبب مواقفه المؤيدة للتحولات الشعبية في العالم العربي، والتي شبهها بسقوط جدار برلين،. فهل هي ملامح أولى في خريطة طريق أخرى ستحكم الولاية الثانية لمون على رأس الأمم المتحدة؟ محمد ولد المنى