عبر عصور التاريخ المختلفة كان هنالك دائماً كثيرون يتنقلون من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، إما طلباً للعلم، أو بحثاً عن الرزق، أو لأسباب أخرى، وهو ما ترافق كثيراً بمشاكل نفسية، وبضغوط أخلاقية واجتماعية، ربما كان أشهرها ما يعرف بالصدمة الثقافية. وتُعرّف الصدمة الثقافية على أنها الصعوبة التي يواجهها البعض في التكيف مع ثقافات جديدة، مختلفة إلى حد كبير عن الثقافة الأصلية، عند الانتقال للعمل أو الحياة في بلد غير بلد الموطن. وغالباً ما تتكون حالة الصدمة الثقافية من مراحل أربع محددة، وإن لم يكن من الضروري أن يمر كل من يتعرض لهذه الصدمة بنفس المراحل، أو أن يطول بقاء الشخص لفترة كافية لاستكمال المراحل جميعها، كما أن الفروق الشخصية تجعل علامات وأعراض الصدمة تختلف من شخص إلى آخر أيضاً. ويطلق على المرحلة الأولى من الصدمة الثقافية، مرحلة "شهر العسل"، حيث يستقبل الشخص حينها الفروق بين الثقافة الجديدة وثقافته الأصلية من منظور رومانسي إيجابي، يجعله يستمتع بأنواع الطعام الجديدة، وينغمس في نمط وسرعة الحياة، ويتقبل العادات الشخصية لمجتمعه الجديد بشكل كامل. وهذه المرحلة، كما في شهر العسل بمعناه المعتاد، تنتهي في غضون أسابيع أو بضعة شهور، لتحل محلها مرحلة "التفاوض"، التي تتميز بظهور الفروق بين الثقافتين القديمة والجديدة بشكل جدي واضح، تتراجع معه درجة الإثارة والاستمتاع بالثقافة الجديدة، ومن ثم يتولد شعور بالإحباط والقلق، وربما حتى الغضب، نتيجة التعرض لخبرات غريبة على الشخص، أو ربما حتى قد يراها مهينة من المنظور الثقافي القديم. وهذه التجارب والخبرات غالباً ما تنتج عن الحاجز اللغوي، أو بسبب اختلاف معايير النظافة الشخصية والعامة، أو معايير القيادة والسلامة المرورية، أو أنواع ومذاق المتوفر من أطعمة، وهي مواقف قد تعمل كلها على فصل الشخص عن محيطة، وعزله داخل جزيرة ثقافية مختلفة. وتعقب هذه المرحلة، مرحلة ثالثة هي مرحلة "التكيف"، التي تبدأ غالباً بعد ستة أو اثني عشر شهراً، وتتميز بالتعود على مظاهر وجوانب الثقافة الجديدة، بحيث يصبح الشخص منغمساً في روتين الحياة اليومية، وقادراً على التعامل معها بالشكل الصحيح من المنظور الثقافي الجديد، مما يساعده على الاندماج والانخراط بشكل أفضل، مما يدرء عنه شبح العزلة ووحشة الغربة. وفي النهاية، يصل الشخص إلى المرحلة الرابعة والأخيرة، التي يمكن أن نطلق عليها مرحلة "البراعة والتمكن"، وتتميز بالفهم والإدراك الكاملين للمعايير الأخلاقية ولطبيعة التفاعلات الاجتماعية للثقافة الجديدة، والانغماس في هذه المعايير وفقاً لسلوك مقبول ومعتاد في المجتمع الجديد، ودون أن يفقد المرء قيمه الثقافية الأصلية أو ينحرف عن معاييرها الأخلاقية. وبخلاف الصدمة الثقافية، التي غالباً ما تصيب من انتقلوا للحياة في بلد آخر، بغرض الإقامة لفترة طويلة، يتعرض بعض المسافرين لفترات قصيرة، لغرض السياحة أو العلاج مثلًا، لنوع آخر من الصدمة النفسية. وأول ذكر لهذه الصدمة النفسية السياحية كان في عام 2004 على صفحات إحدى الدوريات العلمية الفرنسية المتخصصة في الأمراض والاضطرابات النفسية (Nervure)، في دراسة وصفت اضطراباً نفسيّاً مؤقتاً، يتعرض له بعض الأشخاص الذين يزورون مدينة باريس، ويطلق عليه حاليّاً منظومة باريس (Paris Syndrome). وأعراض هذه المنظومة النفسية تتراوح ما بين الهلوسة والهذيان، مع حالة من الوهم، والإحساس بالاضطهاد، والعدوانية، والتمييز السلبي من قبل الآخرين، وفقدان الاتصال بالواقع، والتوتر الشديد، بالإضافة إلى بعض المظاهر الجسمانية مثل الدوخة والغثيان، والتعرُّق الزائد، وتسارع ضربات القلب. وعلى رغم تباين الصورة الإكلينيكية لهذا الاضطراب، إلا أن من القواسم المشتركة بين الحالات، حدوثه لسائحين -يابانيين في الغالب- أثناء زيارتهم لباريس، أو فرنسا وإسبانيا بوجه عام. ويفسر الأطباء وعلماء النفس هذه الحالة على أنها بسبب الصدمة الناتجة عن الهوة بين توقعات الشخص قبل شروعه في قضاء عطلته في إحدى أجمل مدن أو بلدان العالم، وبين الواقع الذي يتعرض له أثناء إجازته. فالانطباع العام لدى غالبية الناس عن باريس والثقافة الفرنسية بوجه عام، وخصوصاً بين الآسيويين، وبالتحديد اليابانيين، انطباع إيجابي مبالغ فيه، تحيط به هالة من الرومانسية غير الواقعية، التي تتهاوى غالباً عند الاحتكاك بأشخاص وقحين، متعجرفين، يتميز سلوكهم بالغلظة والفظاظة، مما يشكل صدمة لمن قضوا سنوات في ادخار نفقات هذه العطلة، لتتحول حينها مدينة النور إلى مدينة جحيم. وخطورة ومدى انتشار هذه الصدمة وحدَّة أعراضها يتجليان من خلال حقيقة أن السفارة اليابانية في باريس تتعامل سنويّاً مع عشرات من السائحين الذين تعرضوا لانهيار نفسي، كثيراً ما يتطلب حجزهم في المستشفيات، وإعادة توطينهم على نفقة الحكومة اليابانية. وتجنب مثل هذه الحالة يتطلب التعامل مع البلد التي ينوي الشخص قضاء عطلته فيه بشيء من الواقعية، مع التخلي عن النظرة الرومانسية التي تروج لها أفلام هوليوود وكتيبات الدعاية السياحية، التي غالباً ما تظهر هذه الدول بصورة مفرطة في الإيجابية. فلكل بلد مشاكله، وفي كل بلد يتواجد الجميل والقبيح، والمهذب والوقح، بما في ذلك فرنسا وإسبانيا وسويسرا، وكل الدول. وربما كانت أفضل طريقة للتعرف على طبيعة البلد الذي تنوي زيارته هي الاطلاع على منتديات المسافرين على شبكة الإنترنت، التي غالباً ما تظهر الصورة الحقيقية للبلد، وأحياناً أيضاً ما تتضمن رأي المسافرين في الفنادق والمطاعم والأماكن السياحية منظوراً إليها من قبل مسافرين عاديين، وهو ما من شأنه أن يقي من صدمة سببها في الأساس توقعات البعض المبالغ فيها.