تعاني إسرائيل، أكثر من أي وقت مضى، مشاكل داخلية'؛ اجتماعية وسياسية جمة. ومع اختفاء "اليسار الإسرائيلي"، ظهرت بوضوح بوادر تحول النظام السياسي الإسرائيلي إلى نظام يميني فاشي. فموجة العنصرية والتعصب أصابت مفاصل هامة في المجتمع الإسرائيلي، سواء عبر الفتاوى الدينية أو القرارات والقوانين الحكومية. والخلافات والانشقاقات تجتاح المجتمع الإسرائيلي في معظم أرجائه وحول العديد من القضايا المثارة. ولعل الأصل في كل هذا يكمن في عدم وجود مجتمع إسرائيلي موحد، فهو مجتمع ممزق أساساً بين يهود غربيين (اشكناز) ويهود شرقيين (سفارديم)، والتوتر بينهما، كي لا نقول الكراهية والعداء، قديمة منذ تأسيس "الدولة". وهناك المتدينون (حريديم) وهناك العلمانيون، والعداء بينهما أيديولوجي قديم أيضاً. وهناك اليهود الروس واليهود الفلاشا القادمين من إثيوبيا، وهناك المستعمرون (المستوطنون) الجدد. وهناك، سياسياً واجتماعياً، اليسار واليمين والوسط واليمين المتطرف. وهناك الفقراء والأغنياء الذين تتزايد الفجوة الاجتماعية بينهم على نحو متسارع. هذا طبعاً عن يهود إسرائيل عموماً، وبدون ذكر تزايد الفجوة بينهم وبين عرب 48 الفلسطينيين. ورغم أن المجتمع الإسرائيلي يعاني اليوم من كل المشاكل آنفة الذكر، فإن مشكلة الصراع العلماني الديني تأتي في المقدمة (طبعاً بعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي). ففي نهاية 2010، صدر كتاب عن "جامعة حيفا"، يتضمن بحثاً للمختص الديمغرافي العنصري (أرنون سوفير) يتحدث فيه عن وضعية إسرائيل الديمغرافية حتى 2030. والى جانب ما يتضمنه البحث من مضامين عنصرية ضد فلسطينيي 48، واقتراح "حلول" للجم تزايد العرب، فإنه يسلط الضوء على ارتفاع نسبة الأصوليين والمتدينين معاً في إسرائيل، حتى عام 2030، ليتجاوز نسبة 50 في المئة من مجمل السكان، وما بين 62 و65 في المئة من اليهود. وفي 13 مارس 2011، فإن استطلاعاً للرأي أجراه معهد "داحاف" الإسرائيلي، أظهر ارتفاع نسبة العنصرية والتطرف في أوساط الشبان الإسرائيليين، لاسيما حيال العرب، موضحاً أن 23 في المئة منهم يؤمنون أن الانقسام الحاصل بين المتدينين والعلمانيين هو التهديد الأكبر لإسرائيل إذ أكدت نتائج الاستطلاع ارتفاع نسبة من يعتبرون أنفسهم يمينيين، من 48 في المئة عام 1998 إلى 62 في المئة عام 2010. وفي المقابل، تراجعت نسبة من يعتبرون أنهم ينتمون إلى اليسار إلى 12 في المئة فحسب. إن تحول المشهد السياسي في إسرائيل نحو اليمين حقيقة رسختها نتائج انتخابات الكنيست الثامنة عشرة في عام 2009، حيث حصدت أحزاب اليمين القومي والديني في إسرائيل أغلبية المقاعد المائة والعشرين. وفي عام 2010 برز موضوع يهودية الدولة بوصفه مهمة مركزية لإسرائيل، مثلما شهد هذا العام ترجمة للتوجهات اليمينية المتشددة في إسرائيل في سياق سياسي واجتماعي داخلي على شكل جملة من القوانين العنصرية التي أقرها الكنيست، مستهدفة فلسطينيي 48. ومن أبرز هذه القوانين قانوني: المواطنة والنكبة. كما أدت التحولات الاجتماعية والديمغرافية العميقة التي تمثلت في ظهور تكتل سياسي واجتماعي جديد (السفارديم والمتدينين الأرثوذكس و"المستوطنين") منذ مطلع الثمانينيات إلى تعميق التحول نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي، ليس فقط في طبيعة ووظيفة الكيان الإسرائيلي، بل أيضاً في قوانينه العامة ذات الطابع العنصري الاستئصالي، مع توسع المعسكر الفاشي إثر تحول الأكثرية المجتمعية والسياسية نحو اليمين العنصري. فإسرائيل "القديمة"، ذات الطابع العلماني والاشتراكي والقومي السابق، غدت اليوم تحت تأثير رؤى القوى الدينية المتعصبة. والتسيد الذي تعيشه هذه القوى بات يقلق النخب الإسرائيلية السياسية، وهو نابع من طبيعة الدين اليهودي ومن مكانته في إطار الدولة التي وظفت العقيدة الدينية لدعم حجج الأيديولوجيا الصهيونية. لقد فشلت الصهيونية، رغم جهودها الاستثنائية، في صهر يهود العالم (الذين تجمع كثير منهم في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي) في بوتقة واحدة. بل تحول ذلك "المجتمع" تدريجياً إلى مجتمع "غيتوهات". فالصراع بين الأصوليين والعلمانيين يخيف إسرائيل ويؤرقها، الأمر الذي دفع "جيرالد شتينبرغ"، رئيس برنامج إدارة الصراعات والمحادثات في جامعة "بار إيلان"، للقول: "ليس منا من عنده أي وهم حول الصعوبات التي نواجهها في "تباين العلمانيين والمتدينين"، حتى إن أكثر الناس تفاؤلاً بيننا يعترف بأن التخلص من الحقد وهوة الجهل التي تفصل الحريديم والعلمانيين، تحتاج إلى سنين طويلة... ونحن نعرف أنه ليس هناك تحدٍ أعظم من هذا يواجه إسرائيل والإسرائيليين في الخمسين سنة القادمة". التوتر والصدام كانا دائماً سمتين للعلاقات بين الطرفين العلماني والمتدين. ولعل من أخطر التطورات مسارعة الأصولية اليهودية إلى تعزيز وجودها في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما رأيناه في "الفتاوى" ذات الطابع السياسي، خاصة قضايا الصراع مع الفلسطينيين والقدس والدولة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل خطر هذه القوى أكثر تطرفاً. وفي هذا يقول رئيس بلدية تل أبيب "رون خولدائي" منتقداً التعليم الأصولي: "نتيجة للضغط السياسي، وباسم التعددية الثقافية وشعارات تقدمية أخرى، تمول دولة إسرائيل وترعى قطاعات كاملة جاهلة وانعزالية". وختاماً، يتغير المشهد الديني العلماني في إسرائيل اعتماداً على اتجاهات عدة لعل أبرزها زيادة حجم الأصولية في الكيان، وحدوث استقطاب مع "الآخرين" بحيث أصبحت هناك مدن أصولية شبه مقفلة في وجه العلمانيين مثل القدس، ومدن علمانية خالصة مثل تل أبيب. وعليه، فالمواقف التي عرضها نتنياهو أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة تحظى بتأييد جارف في المجتمع الإسرائيلي. فحسب استطلاع أجراه معهد "داحف" الشهير، "فإن 77 في المئة من الجمهور الإسرائيلي لا يوافقون على الانسحاب إلى خطوط 67، حتى وإن جلبت مثل هذه الخطوة اتفاق سلام وإعلان الدول العربية عن نهاية الصراع". إلا أن الملفت في الاستطلاع هو الموقف من "الأماكن الدينية"؛ فقد تبين أن 75 في المئة يعارضون نقل الحرم (جبل البيت) إلى سيطرة فلسطينية. وفي سؤال حول الاستعداد للتنازل عن أماكن مقدسة أخرى، مثل "قبر راحيل" قرب بيت لحم و"مغارة الماكفيلا" (الحرم الإبراهيمي) في الخليل وإبقاء حائط البراق في القدس وحده بيد إسرائيل، أجاب 65 في المئة بأنهم لا يوافقون على ذلك"!