مرت علاقة الحاكم بالهيئة النيابية في مصر بمراحل أربع أولاها تلك التي سبقت الاحتلال الإنجليزي ووقعت بين 1866 و1882 وثانيتها خلال الاحتلال من 1882 حتى الاستقلال 1922 وثالثتها بين 1922 و1952، ورابعتها من 1952 وحتى 11 فبراير 2011 وهو اليوم الذي شهد تخلي مبارك عن الحكم مجبراً بالضغط الشعبي. وفي المرحلة الأولى هيمن الخديوي إسماعيل على عمل مجلس شورى النواب، الذي نشأ لغرضين هما السيطرة على الأعيان وتحسين صورة نظام الحكم في أعين الأوروبيين. ولكن المجلس لم يستسلم لسطوة الخديوي فرفض مرسوماً من "النظارة" -الاسم القديم في مصر للوزارة- بحله في مارس 1879 متكئاً على تأييد قوى اجتماعية وسياسية وطنية، أجبرت إسماعيل نفسه على الاستجابة لمطلبها بتشكيل نظارة جديدة، ووضع نظام دستوري فعال، وهو ما تم عبر صياغة لائحة أعطت بعض الحقوق لهذا المجلس، ولكنها أعطت الخديوي حق حله إن رفضت "النظارة" الاستقالة بسبب خلافها مع مجلس شورى النواب. فلما جاء توفيق إلى الحكم عطل الحياة النيابية، ولكن عرابي أجبره على إعادة مجلس شورى النواب، وعادت معه صلاحيات الخديوي حيال البرلمان، حتى صدرت لائحة ديمقراطية نسبيّاً عام 1982، ولكنها لم تلبث أن ماتت تحت أقدام المحتل البريطاني، الذي أنشأ مجلسين هما: مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، تمت الاستعاضة عنهما في سنة 1913 بالجمعية التشريعية، التي لم تستمر سوى بضعة أشهر، حيث تم تعليق الحياة البرلمانية بسبب الحرب العالمية الأولى. وقد كانت سلطة الخديوي مطلقة حيال هذه المجالس الثلاثة المتعاقبة. وعقب إعلان دستور 1923 شهد العمل النيابي تطوراً ملموساً، بإنشاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وكان الملك يملك حق حل الأول دون الثاني، ولكن دستور 1930 أصاب هذا المسار البرلماني الواعد بنكسة كبيرة، إثر إعطائه الملك حق تعيين الشيوخ وسلب سلطة مجلس النواب في مجال تعديل الدستور. إلا أن العمل بهذا الدستور المعيب لم يستمر سوى خمس سنوات، وتمت العودة إلى دستور 1923. وبعد ثورة 1952 تم تعليق الحياة البرلمانية لفترة، ولكنها عادت بموجب دستور 1956، الذي تشكل بمقتضاه مجلس الأمة، وظل على قيد الحياة السياسية حتى 1971. وطيلة هذه الفترة اختلَّت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لصالح الأولى، حيث كان حل البرلمان وإصدار التشريعات وقت الطوارئ من الحقوق الثابتة بشكل عام لرئيس الجمهورية، بينما تقلصت صلاحيات البرلمان وتنازل بحكم الأمر الواقع عن أداء دوره التشريعي والرقابي كما ينبغي أن يكون، أو كما يعطيه الدستور والقانون، بينما تغولت السلطة التنفيذية وسيطرت على المجال العام من زاوية صناعة القرار واتخاذه، وتحول البرلمان إلى مجرد منتدى لـ"الثرثرة" و"السمسرة" وإنتاج الضجيج بلا أي طحن، وتحولت "الحصانة" من ضمانة لحماية دور البرلماني إلى رخصة لجني المكاسب الشخصية، وتمرير المصالح والمنافع الذاتية البحتة. ويتسع الجدل يوماً إثر يوم في المجتمع المصري حول نظام الحكم المنتظر، كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية، التي ستنتج برلماناً ينتخب جمعية تأسيسية تضع الدستور الجديد للبلاد. فهناك من يروق له النظام البرلماني ويعتبر أنه سيعطي حيوية للحياة السياسية، وسيفتح الباب أمام مزيد من المشاركة الشعبية، وسيقضي على ظاهرة "الزعيم الأوحد" التي جلبت وبالاً على مصر. وهناك من يُجيل بصره في المشكلات والأزمات والمعضلات المطروحة حاليّاً ويرى أن الأفضل هو نظام رئاسي يأتي بشخص قوي لديه صلاحيات تمكنه من إدارة الأمور بما يقود إلى التغلب على هذه المشكلات، ويفتح الآفاق أمام بناء نظام سياسي جديد. ويخشى هؤلاء من أن النظام البرلماني قد يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب والتشرذم، وقد يلقي بالبلاد في ذمة التيار السياسي ذي الخلفية الدينية، الذي قد يتخذ من الإجراءات ويسن من القوانين ما يجهض به الديمقراطية الوليدة. في حقيقة الأمر علينا ابتداءً أن نفرق بين "النظام الرئاسي" و"الرئاسية" التي تعد تشويهاً منظماً ومقصوداً للنظام الرئاسي المعروف في نظر البعض، بينما يراه آخرون نظاماً متمايزاً ينزع فيه رئيس الدولة دوماً إلى تركيز السلطات والصلاحيات في يده على حساب المجالس التشريعية والتنفيذية، وأحياناً على حساب الدستور والقوانين. ويختلف النظام الرئاسي عن البرلماني في روحه وقواعده، وميزته الأساسية هي التوفيق بين المبدأ الديمقراطي الذي يلعب دوراً في انتخاب السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين واقع الحكم الشخصي الذي يتطلب قوة واستقراراً، حيث إن رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب بطريقة مباشرة يتمتع بصلاحيات عظيمة تجعل من حكمه حكماً شخصيّاً نافذاً، لا يخضع إلا لأحكام الدستور طيلة مدة ولايته. ولكن النظام الرئاسي لم يفلح بشكل واضح وكبير سوى في الولايات المتحدة الأميركية. والمشكلة في النظام المصري السابق أنه كان مفرطاً في "الرئاسية" إلى درجة أن صلاحيات مبارك كانت تفوق تلك التي امتلكها الأباطرة في العصور الغابرة، إذ انطوى الدستور على ما يربو على ثلاثين مادة كانت تعطيه سلطات مفرطة وفارقة، بما جعله محور الحياة السياسية كلها، وجعل الباحثين ينظرون إلى النظام السياسي المصري على أنه هرم مقلوب يقف على رأسه، وهو رئيس الدولة. المشكلة أيضاً أن المطروح على المصريين حاليّاً ليس "مشروعاً رئاسيّاً" وإنما مجرد "رئيس"، فالأول يعني أن يقدم المرشح للرئاسة نفسه من خلال فريق عمل وبرنامج شامل، أما الثاني فيسعى إلى إعادة إنتاج "الزعيم" وهي مسألة لابد أن يتجاوزها المصريون تماماً، ويلقوها في سلة مهملات التاريخ. ولو افترضنا أن النظام الرئاسي هو الخيار الأرجح لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقوى سياسية أخرى، فإن من الضروري أن تكون صلاحيات الرئيس في الدستور القادم مناسبة ومعقولة، وليست مفرطة تجعله وكأنه شبه "إله" كما كان الحال في دستور 1971، الذي أسقطته الثورة. وتكون صلاحيات تجعل من رئيس الجمهورية "موظفاً كبيراً" يعمل مع الناس ولا يعمل عليهم. إن العبرة ليست بنوع النظام بقدر ما تتعلق بالبنية الديمقراطية، التي تضمن استقلال المجتمع وفاعلية المؤسسات الوسيطة، من نقابات واتحادات وروابط وهيئات وقوى أهلية ومدنية، فهذه تشكل رافعة للديمقراطية في مطلعها، ثم تبني جداراً قويّاً تستند إليه، أو قاعدة راسخة تقف عليها، وتحميها وتمنع من يريد التغول عليها، رئيساً كان أم برلماناً، وهذا هو الشرط الضروري للإجهاز على الفرعونية السياسية.