في المجتمعات العربية التي تواجه حراكاً ملحوظاً بالتغييرات غير المتوقعة كما يصفها البعض وفق ما كان مبرمجاً لها منذ عقود، لا يمكن نسبة ذلك الوضع العام إلى عامل أوحد وإلا فقدت هذه التحولات مصداقيتها وقد تعود إلى ما كان الوضع عليه أو أشد. إلا أن هناك عاملين حاسمين كان لهما قصب السبق في تجاوز كل التابوهات السياسية والأمنية وبرزت آثارهما على السطح الذي استقطبته مختلف أجهزة الإعلام التقليدية والإلكترونية. العامل الأول هو الفقر "المدقع" وهو بمعنى الاقتصاد الماضي نحو التدهور أو بمعنى آخر الاقتصاد الذي لم ينمُ على رغم الدعاية الصارخة للأنظمة التي اختفت بسرعة وميض البرق من عمر أزمنة التغييرات في العقود والقرون السالفة. فعلم الاقتصاد التنموي هو الشاهد على حالة التنمية الاقتصادية التي قادت ولو جزئيّاً، إلى تدهور أنظمة كانت تحسب لأي تغيير ألف حساب ولكن مع ذلك لم يعمل هذا التغيير المفاجئ لأحد أي حساب. وفي الحكم المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، لأنه إن لم توضع الخطط التنموية السليمة لقتله فإنه سرعان ما يمارس الفقر القتل المضاد لكل الخطط غير التنموية ولو سميت تنموية. أما العامل الأشد إيلاماً لكرامة الإنسان في أي مكان وفي أي زمان فهو استخدام "القمع" الذي يؤدي إلى استمرار الفقر "المدقع"، فطبيعي أن يتم كسر كل قيمة إنسانية راقية وإحلالها بالمهانة والإذلال وقد دفع الشعب ثمن ذلك من دمائه، ولا نعتقد أن ضخ المال وحده سيعالج الفقر المدقع والقمع المُكسر في آن واحد. لذا خرج الإنسان المجرد من كل شيء في المجتمعات العربية التي أنظمتها لا زالت تقاوم التغيير لمستقبل أفضل للجميع، عن السياق المتعارف عليه في سنن التغيير مقارنة بالعوالم الأخرى وفق شواهد التاريخ المعاصر والقديم. فإذا كانت خشونة وآلام الفقر المدقع لم تفت من عضد هذا الإنسان المحتج مع حرارة سياط القامعين، فالذي يوقف هذا الهدير ليس من القمة، بل من القاع الذي لم يسمح له يوماً تحت ظل تلك الأنظمة أن يرفع له رأساً للكرامة والحرية وتذوق طعم الإنسانية المجردة عن عوارض الطائفية والعنصرية وتوابعها المؤذية لأي نسيج اجتماعي متناسق وآمن. وإذا أضيفت جرعات أخرى من المظالم الاجتماعية إلى العاملين سالفي الذكر، فلنتصور كيف لهذه المجتمعات التي وضعت نفسها في مأمن من غدر الدهر، وأنى لها التمسك بأهداب الأمن إذا ما وصل الظلم بكل أنواعه إلى درجة القلاقل الاجتماعية وصولاً إلى حد التسونامي السياسي. إن ما يحصل في أجزاء من الوطن العربي ليس بالأمر الطبيعي، ولذا، فإن التعامل معه بحاجة إلى الحذر الشديد والحِكَم الرشيدة والحيطة اللازمة، وخاصة إذا لم يتوفر جهاز خاص لقياس درجات الهزات السياسية قبل وقوعها، فالحاجة إلى اختراع مقياس "رختر" سياسي أصبحت ملحة في ظل الأوضاع التي كسرت طوق الفقر المدقع والقمع المُكسر.