يخشى المرء أن تكون احتجاجات "الربيع العربي" قد شغلت الرأي العام وقياداته وصحافته وسياسييه، عن السودان وما يجري فيه من أزمات ومعارك وصلت حد الالتحام بالسلاح مخلفة وراءها دماءً غزيرة وآلافاً من النازحين والمهجرين. فما يجري في بعض أقاليم السودان لا يقل في مردوداته المأساوية عن مخلفات "الربيع العربي" الذي أصبح الشغل الشاغل للإعلام الغربي وللدوائر السياسية في العواصم الكبرى. إن ما يجري اليوم في بعض أقاليم السودان من حروب صغيرة ستكون له نتائج غير هينة على العالم العربي والجوار الأفريقي خلال المستقبل القريب والبعيد، وسيتكرر الخطأ المستمر متمثلا في التجاهل العربي للسودان، وعندما تقع الكارثة (وهي حتماً واقعة) سيعود العرب للبكاء على الدم المسفوح والفرص الضائعة! إن ما يجري من اقتتال في جنوب كردفان هو البداية الدموية لحرب ستعود بالسودان إلى مرحلة الحرب الأهلية الظالمة التي تفاءل السودانيون بإعلان نهايتها في الجنوب وإجراء الاستفتاء حول المصير الذي أوضحت نتائجه أن الجنوبيين حققوا بالانتخاب الديمقراطي مطلبهم التاريخي بقيام دولتهم المستقلة. الأخبار المؤكدة أن القتال في جنوب كردفان بدأ عندما طلب حاكم الإقليم من نائبه السابق إخلاء معسكرات "الحركة الشعبية" ونزع أسلحتها وتسليمها للحكومة. إن "أزمة" جنوب كردفان هي إحدى ثمار اتفاقية نيفاشا التي سميت "سلام السودان". فالاتفاقية تنص على إجراءات دستورية وقانونية فيما يتعلق بإقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق اللذين كانا تحت مسؤولية "الحركة الشعبية"، وتنص الترتيبات الخاصة بالإقليمين في ملحق خاص على إجراء المشورة الشعبية لسكان الإقليمين حول مصيرهما. وإذا اكتملت إجراءات ومطلوبات "نيفاشا" فعلى الطرفين، تحت رعاية اللجنة الدولية لمراقبة تنفيذ اتفاقية السلام، أن يصلا عبر التفاوض إلى حلول لمشكلة قوات "الحركة الشعبية" الموجودة هناك. والآن أصبح انفصال الجنوب واقعاً تعرفه حكومة "الإنقاذ"، لكن حاكم الإقليم أعلن أن قائد قوات الحركة في جنوب كردفان، برفضه تسليم سلاح جنوده، قد أصبح متمرداً وخائناً للوطن، وأنه سيعتقله ويوجه إليه تهمة الخيانة العظمي. لكن القائد أعلن أنه سيقاوم هو وجنوده وسيهزم قوات الحكومة وسيقوم بتسليم الحاكم المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإبادة في دارفور... وهكذا بدأت المناوشات الكلامية لتصبح حرباً فعلية. ولم يفق الشعب السوداني من أزمة جنوب كردفان، حتى أعلن الجنرال مالك عقار، حاكم إقليم النيل الأزرق ورئيس "الحركة الشعبية" في شمال السودان، أنه تلقى خطاباً من رئاسة الجمهورية يطلب منه سحب قوات الحركة المتمركزة في النيل الأزرق إلى جنوب حدود عام 1956، وإلا فإن الحكومة سوف تقوم بنزع سلاح تلك القوات والاستيلاء على مواقعها بالقوة. وأضاف عقار أنه أخبر الاتحاد الأفريقي ومجموعة "الإيقاد" بتلك التطورات، وأنهم أرسلوا مذكرات للخرطوم طلبوا منها عدم الإقدام على نزع سلاح "الحركة الشعبية" بالقوة، وبحل تفاوضي وفق اتفاق الترتيبات الأمنية للنيل الأزرق وجنوب كردفان. وبعد، أليس من حق المرء أن يقلق ويتساءل: إلى أين ينتهي بالسودان هذا العناد السياسي؟ وأن يتخوف من انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية الأخيرة التي تنتهي بتمزيق الوطن وتحويل أهله إلى نازحين ولاجئين وضحايا حرب لن يستفيد منها سوى أعداء السودان!