إذا كانت التبعية التي تعانيها معظم دول العالم العربي والإسلامي قد لعبت دوراً مؤثراً في إعاقة مشروع النهضة، فإن المشكلة هنا تكمن في توظيف العلوم الإنسانية والاجتماعية لخدمة هذا الهدف وعلى الأخص علم الإنثربولوجيا وعلم النفس، حيث تحولت هذه العلوم لدى الباحثين في الغرب ومراكز البحوث الغربية إلى وسيلة ناجحة لتحقيق مستوى عالٍ من الارتباط السياسي والاقتصادي والثقافي والنفسي والقيمي لمجتمعاتنا وتكريس أوضاعها كمجتمعات معتمدة في كل شيء تقربياً على الغرب. لذلك فقد اهتمت الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، اهتماماً كبيراً بمثل تلك العلوم حيث أوكلت إليها دوراً مركزياً في أجندتها السياسية والاقتصادية الخاصة إزاء شعوب المنطقة العربية والإسلامية وخصصت لها مراكز بحثية ضخمة لتحقيق هذا الهدف، وأسندت مهمتها لعلماء نفس واجتماع وإنثربولوجيا وأخصائيين في دراسة السلوك الإنساني، وهذه بعض المؤشرات الدالة على وجود مثل تلك الاستراتيجية. 1 - برنامج "التضاريس البشرية" الذي أطلقته وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" تحت شعار "كسب قلوب وعقول الناس"، وأسندت مهمة القيام به إلى علماء الانثربولوجيا لرسم خريطة معرفية وفكرية واضحة للمجتمعات العربية والإسلامية، وعلى الأخص شعبي العراق وأفغانستان، بغية التعرف على العادات والتقاليد واللغة والدين والسلوك والممارسات اليومية وحجم الثروات وحجم الإنجاز العلمي المتحقق... حيث تبين بعد ذلك أن مهمة علماء الانثربولوجيا لجمع المعلومات قد تم فيها انتهاك أخلاقيات البحث، طبقاً لـ"ديفيد برايس" أستاذ الانثربولوجيا في جامعة سانت مارتنفي الأميركية. 2 - ما أشارت إليه بعض الدراسات حول تخصص إحدى وحدات الوكالات الأميركية، والتي تتكون من علماء نفس وأطباء نفسيين مهمتهم استخدام التحليل النفسي لدراسة شعوب المنطقة بكل مكوناتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدينية واللغوية، وذلك بهدف وضع صورة تشخيصية توضح نقاط القوة والضعف وتحدد مكامن الصراعات الظاهرة والكامنة. 3 - ما ذكره المستشرق الفرنسي "أوليفيه كاريه" حول وجود علاقة قوية بين الجامعات وبعض الهيئات الحكومية، علاوة على وجود مؤسسات تتلقى منحاً وتمويلات وتسهيلات مقابل تقديم بعض المعلومات، وهذا ما جعل "السيد البدوي"، رئيس حزب "الوفد" المصري، يحذّر في حوار مع جريدة "الأسبوع" المصرية الصادرة يوم 22/5/2011، من خطورة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني على مسار التحولات المصرية؛ فـ"هذا التمويل قد يكون وسيلة لضرب يقظة الشعب المصري الساعي والمتطلع إلى الديمقراطية". 4 – كما تشكل رسائل الماجستير والدكتوراه للطلاب العرب الدارسين في أوروبا وأميركا حول مجتمعاتهم، منبعاً معرفياً علمياً مهماً حول المجالات الحيوية في دولهم، وقد تتم الاستفادة منها في التعامل مع مشاريع النهوض ومحاولات الخروج من إسار التخلف. 5 - ما قاله كولن باول، وزير الخارجية الأميركي الأسبق من أنه لا يستطيع التفكير في رصيد لأميركا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم فيها، ذلك أن الطلبة الدارسين في أميركا غالباً ما يعودون إلى أوطانهم بتقدير كبير للقيم وللمؤسسات الأميركية. وحسب كتاب "القوة الناعمة"، لمؤلفه جوزيف ناي (المساعد السابق لوزير الدفاع الأميركي) فإن ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات أصبحوا يشكلون خزاناً رائعاً للنوايا الحسنة تجاه أميركا. 6 - الحرب النفسية التي تعتمد على استراتيجية تقزيم حضارة الآخر ومنجزاته العلمية والفكرية، وتشويه صورة ثقافته، بهدف تكريس حالة من التبعية والانهزام النفسي. من ذلك يتضح أن مشروع النهضة يواجه إشكالية توظيف الجامعات والعلوم الإنسانية ومراكز البحوث العلمية في اتجاه مضاد، لإجهاضه وإعاقة حركته، مما لا يكون الرد عليه إلا بتطوير علوم إنسانية عربية قادرة على القيام بوظيفتها العلمية في التفسير والشرح والتأثير.