عند الحديث عن القضية الفلسطينية ومعاناة أهلها مع الاحتلال الإسرائيلي فإنه غالباً ما نستحضر عبارات اخترقت الخطاب السياسي والإعلامي وتحولت مع مرور الزمن إلى ما يشبه الكليشيهات؛ مثل: حل الدولتين، والسلام الدائم والعادل.. إلخ. وفي خضم كل ذلك يركز الإعلام على حصار غزة والممارسات الإسرائيلية وما ترتب عليها من معاناة الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال والحصار، ليبقى الغائب الأكبر هم الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، أو "عرب إسرائيل". هذا الغياب لا تبرره في الحقيقة أسباب مقنعة بالنظر إلى معاناتهم أيضاً من السياسات التمييزية. لذا يحاول المؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابي" المعروف بنزعته المعادية للصهيونية وكتاباته المنتقدة لإسرائيل وسياساتها في الكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه "الفلسطينيون المنسيون... تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل"، نفض الغبار عن تاريخهم داخل دولة إسرائيل ورد الاعتبار لجزء مهم من سكان الدولة العبرية الذين عادة ما يغيبون عن الإعلام في خضم التركيز على ما يجري في الأراضي المحتلة وتشعبات السلام المتعطل، رغم أن المؤلف ينبه إلى العلاقة بين السكان الفلسطينيين في إسرائيل ونجاح عملية السلام بعد ظهور مطالب اليمين الإسرائيلي الداعية إلى استبدال ليس فقط الأراضي بل السكان أيضاً، فيما يبدو أنها محاولة من إسرائيل للتخلص من أقليتها العربية التي تمثل عشرين في المئة من مجموع السكان. تلك الدعوات العنصرية تعكس واقع الفلسطينيين الذين رغم مضي كل هذه السنوات داخل إسرائيل لم يندمجوا كلية في المجتمع بسبب ممارسات الدولة التمييزية ضدهم وتشكيك المجتمع في ولائهم. ولتسليط الضوء على العرب في إسرائيل بما هم جماعة سكانية متمايزة بثقافتها وعاداتها المختلفة عن المجتمع اليهودي، يعود بنا المؤلف إلى التاريخ عندما آثر حوالي 160 ألف فلسطيني البقاء في بلداتهم وقراهم بعد قيام دولة إسرائيل، رغم حملات الترهيب التي مارستها العصابات الصهيونية لطردهم من أرضهم، لكن العدد البسيط الذي كان عليه الفلسطينيون سينمو بفضل نسبة الولادات العالية ليغدو اليوم 3.1 مليون نسمة، وبسبب التهميش الذي تعرضوا له طيلة تلك السنوات وشعورهم بالعزلة عن محيطهم اليهودي لم يحظوا بالتغطية الإعلامية مقارنة بأكثر من أربعة ملايين فلسطيني يعيشون في الأراضي التي ضمتها إسرائيل عام 1967. ويرجع المؤلف سياسة إسرائيل تجاه "الأقلية العربية" إلى بدايات الدولة وتحديداً إلى أول رئيس، وهو ديفيد بن جوريون الذي لم يخف -كغيره من قادة إسرائيل الأوائل- رغبته في التخلص من السكان غير اليهود لتكون إسرائيل خالصة لليهود. ولأن الأمر كان مستحيلا من الناحية السياسية فقد انتهجت الدولة سياسة التضييق على العرب وتشجيعهم على المغادرة وسد أسباب الرزق أمامهم وحشرهم في أماكن ضيقة إذ لا تتجاوز نسبة الأراضي التي يقيمون عليها 3 في المئة رغم نسبتهم التي تصل إلى 20 في المئة. ويوثق المؤلف المراحل الأساسية للتواجد العربي في إسرائيل منذ قيامها، لاسيما بدءاً من الحكم العسكري الذي فرض على بعض مناطقهم حتى عام 1977، ومروراً بالانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي شهدت اصطفافاً لـ"عرب إسرائيل" مع إخوانهم في الأراضي المحتلة، وهو أمر لم تغفره لهم سلطات الدولة التي راحت تشكك في ولائهم وتتهمهم بالخيانة. ومنذ ذلك الوقت، يقول الكاتب، بدأ التعامل مع العرب كأنهم قنبلة موقوتة داخل إسرائيل، أو طابور خامس يتعين التخلص منهم. وقد زادت متاعب العرب داخل إسرائيل في السنوات الأخيرة مع صعود الأحزاب اليمينية ومشاركتها في الحكومة، تلك الأحزاب المعروفة بمعاداتها للعرب كانت دائماً وراء الدعوات المتكررة المطالبة بتهجير العرب إلى الدول العربية لتخلو إسرائيل لليهود فقط، لكن رغم التمييز والتهميش الاجتماعي وانعدام الثقة بين اليهود والعرب في "المجتمع الإسرائيلي"، يشير المؤلف إلى بعض الإيجابيات التي لا يتعين إغفالها، فالعرب في إسرائيل يستفيدون كغيرهم من التغطية الصحية ومن التعليم، فضلاً عن الدور المحوري والمستقل للنساء بعيداً عن القوانين الذكورية التي تعاني منها في بلدان عربية أخرى، والأهم من ذلك المشاركة السياسية التي تتيح للعرب تشكيل أحزابهم، أو الانخراط في أحزاب يهودية وتمثيلهم في الكنيست. ومع ذلك يدعو الكاتب إلى مقارنة وضع "عرب إسرائيل" ليس بالعرب الآخرين في بلدان عربية هم بالتأكيد أقل حظاً منهم في الاستفادة من الخدمات والمشاركة السياسية، بل بالمواطنين اليهود في إسرائيل، وهنا تتسع الفجوة بين الجانبين كما تُظهر ذلك استطلاعات الرأي التي تؤكد ارتفاع معدلات الفقر في صفوف العرب مقارنة باليهود، فضلا عن النظرة المجتمعية المتدنية التي يُنظر بها إلى "عرب إسرائيل"، وتنامي المشاعر العنصرية ضدهم تغذيها قوى اليمين السياسي والنظرة الدينية المنغلقة لبعض التيارات الدينية اليهودية التي تعادي كل ما هو مختلف حتى لو كان يقتسم الوطن، هذا الوطن الذي يبدو أن العديد من اليهود يرتعبون من أن يحتل فيه العرب نسبة الثلث بحلول عام 2050، كما تتوقع ذلك بعض الدراسات. زهير الكساب الكتاب: الفلسطينيون المنسيون... تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل المؤلف: إيلان بابي الناشر: جامعة ييل تاريخ النشر: 2011