لقد أدت راهنية تدفق الأخبار والمعلومات في سياق طوفان الإنترنت الجارف، أيامنا هذه، وخاصة بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، إلى تقطع أنفاس وسائل الإعلام التقليدية، نظراً لعدم قدرتها على مواكبة لحظية الأخبار، التي تنشرها الشبكة في وقت حدوثها الواقعي، الذي يسمى اختصاراً بالإنجليزية IRL. وكما يمكن أن نتوقع فقد كانت لهذا الزلزال المجلجل في فن "الإخبار" توابع جارفة حركت بقوة الصفائح التكتونية لمهنة الصحافة والإعلام، وعصفت بمعظم تقاليدها المهنية في سعيها لمواكبة سرعة وقع الشبكة العنكبوتية وعالمها العارم العامر بالفوضى، وأحياناً أيضاً الموبوء بعدم المصداقية. وبالنتيجة وجدت مهنة الصحافة نفسها وهي تواجه أسئلة المسار والمصير، الاندثار أم الاستمرار؟ هذا ما يثيره الكاتب والأكاديمي الإعلامي الفرنسي "إيناسيو رامونيه" في كتابه الأخير: "انفجار الصحافة: من الإعلام الجماهيري إلى جماهيرية الإعلام"، وهو موضوع يناقشه بطرق مختلفة، ومن زوايا نظر متعددة على امتداد صفحات كتابه الـ 160 مع تركيز خاص على الصحافة الورقية تحديداً. ولعل مما يزيد من القيمة والمصداقية المهنية لهذا الكتاب أن مؤلفه "رامونيه" يتوج به سيرة مهنية حافلة تقلد خلالها بعض أبرز المهن الصحفية في بلاده، حيث عمل أستاذاً لنظرية الاتصال بجامعة باريس رقم 7، ومديراً للوموند ديبلوماتيك، كما يتولى الآن رئاسة العديد من المنظمات الفرنسية والدولية الفاعلة في مجال الإعلام. وفي كتابه هذا أيضاً استمرار ضمني ونظري لكتابه السابق "طغيان الاتصال والدعاية الصامتة" الذي حقق أرقاماً قياسية على قوائم مبيعات الكتب في فرنسا. وينطلق المؤلف في تشريحه النقدي لظاهرة تراجع الإعلام التقليدي أمام الإعلام الجديد، وضمور دور الإعلام المهني أمام إعلام الهواية الشخصية، مؤكداً أن مأزق الصحافة عامة، والورقية منها بصفة خاصة، كان من الطبيعي أن يزداد تفاقماً في عالم عنوانه العام اللحظية واللهاث ضد عقارب الساعة، أو حتى دون عقارب الساعة، ضمن سياق عام من التنافس المحموم الذي فرضته الثورة الرقمية، والنمو الخارق لسلطة وسطوة مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر وغيرهما. وهو سياق جعل أي مواطن ضمن مجتمع- الشبكة، وكائناً ما كان توجهه أو ميوله المهنية، مؤهلاً سلفاً لأن يتحول إلى "صحفي"، بمعنى ما، إذا أحسن استخدام بعض الإمكانيات البسيطة التي تتيحها الشبكة، عبر النشر في مدونته الشخصية، أو رقم حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تأثر وتأثير وانتشار غير محدودة، بين جمهور من المتلقين لرسالته "الإخبارية". وفي ضوء هذا الواقع الجديد أصبح البعض يتحدث عن ظهور "صحافة من دون صحفيين"! وأكثر من هذا يمكن الإشارة إلى الدخول القوي على خط المنافسة، من خلال تحقيق السبق والاختراقات الإعلامية وتبني حرية النشر المتحللة من كافة أشكال الرقابة المؤسسية، أو حتى الذاتية، التي جسدها موقع "ويكيليكس" مثلاً، خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي. ويذهب "رامونيه" إلى أن تقاليد مهنة الصحافة التي ترسخت خلال فترة القرن ونصف القرن الماضية انقلبت الآن رأساً على عقب، تحت سطوة ديكتاتورية السرعة، والسوق، مواكبة مع تسليع وتسريع متناميين لوتيرة تغيير قوانين وتقاليد المهنة الصحفية التقليدية، كما تتزايد مخاطر اختطافها، أو بالأحرى انخطافها الذاتي، كلما أمعنت هي في خضم السباق غير المتكافئ مع موجة الإعلام الجديد، هذا زيادة على تعرض أنواع معينة من العمل الصحفي لخطر الانقراض والاندثار. ولعل مما يستحق الذكر هنا أن أشكالاً متميزة مثل صحافة الريبورتاج، والصحافة الاستقصائية، أصبحت اليوم على وشك الاختفاء والانقراض، ليس لأسباب مهنية مبررة، كأن يظهر الجمهور عدم الرغبة فيها، وإنما فقط لأن ممولي العملية الإعلامية يصنفونها عادة على أنها "مكلفة" ماديّاً. وخلال فصول الكتاب السبعة يقلب الكاتب أزمة الصحافة الراهنة على مختلف أوجهها مفككاً مختلف مظاهرها وأسبابها، مستشرفاً آفاق وشرفات مستقبلها الممكنة. وهكذا خصص الفصل لأول لما سماه بـ"أزمة الهوية" التي ترزح في إسارها المهنة الصحفية اليوم، متحدثاً عن ظاهرة "صحافة الهواية" أو "المواطن الصحفي"، وثنائية ما سماه "إعلام الشمس" و"إعلام الغبار"! وخصص الفصل الثاني لتحدي "المصداقية في وسائل الإعلام"، وإسقاطات تراجع تأثير السلطة الرابعة في بعدها المهني التقليدي على النظام السياسي الديمقراطي الذي تعتبر عادة ركيزة أساسية من ركائزه. فيما خصص الفصلين الثالث والرابع لمقاربة نماذج صحفية عن قرب للتدليل على صحة بعض فرضيات العمل التي انطلق منها، من واقع الحال وضمن دراسات حالة محددة. وخصص "رامونيه" الفصل الخامس لظاهرة موقع "ويكيليكس"، والسادس لمسألة العائد المادي كهاجس موجه ومؤثر في رؤية صانع القرار الإعلامي. وفي الختام، في نهاية طرحه، يتساءل الكاتب، كما يمكن أن نتوقع، في الفصل السابع والأخير: هل سيكتب أخيراً البقاء للصحافة، أم أن في انتظارها مصيراً ديناصوريّاً، لا فكاك منه؟ ليجيب بأن استمرار الصحافة الاحترافية بكافة أشكالها، بما في ذلك الورقية، أمر مؤكد، تماماً مثلما أن الطائرة لم تلغِ الباخرة، والتلفزة لم تلغ الإذاعة. بل على العكس قد نكون على موعد مع عصر ذهبي قريب للإعلام التقليدي، دون أن يعني ذلك، بالضرورة تراجعاً للمكاسب المتحققة في الإعلام الجديد. حسن ولد المختار الكتاب: انفجار الصحافة: من الإعلام الجماهيري إلى جماهيرية الإعلام المؤلف: إيناسيو رامونيه الناشر: غاليليه تاريخ النشر: 2011