يقول المثل الخليجي "عُومة مأكولة ومذمومة"، فالعُومة، وهي سمكة السردين الصغيرة، يأكلها الناس ورغم ذلك يذمّونها لصغر حجمها، والفرق بين العُومة والمثقف العربي أن الأولى تُؤكل وتُذمّ، والثاني يُذمُّ رغم أنه لم يُهضم يوماً. وكان المثقف العربي متهماً على الدوام بأنه مقطوع من شجرة مجتمعه ويعيش في برجه العاجي ولا يعرف ما الذي يدور في الشارع، فهو أشبه بإطفائي يرى أعمدة النار ويختنق بالدخان لكنه يواصل حلّ الكلمات المتقاطعة. ووجّهت الثورات التي اشتعلت في أكثر من قطر عربي الضربة القاضية للمثقف العربي، لأن الاحتجاجات خرجت بعفوية الجماهير وإرادة الشباب بينما المثقف معزول في بيته يقلّب القنوات الفضائية وينتظر اتصالاً به ليدلي بدلوه وهو يرتدي ملابس النوم، أو هو مشغول بقافية مناسبة أو بكلمة منمّقة لندوة ثقافية في قاعة خالية إلا من المقاعد، حتى قيل بحق إن التحولات العربية كانت "نتاج حاجة الشباب العربي للعيش بكرامة، ولم تكن نتاجاً لأي نشاط آخر أسهم فيه المثقف العربي". ويرى المفكّر الضرورة إبراهيم البليهي أن "الاعتراف شرطٌ مبدئي للاستجابة"، إذ "لا يمكن للمثقف أن ينهض بدوره التنويري إلا إذا كان المجتمع يعترف له بهذا الدور"، فهو لم يترك الميدان اختياراً وإنما الميدان مغلق أمامه، وأنه "مهما بلغت تضحيات المثقفين فلن يُتاح لهم أن يصلوا إلى عقول الناس وقلوبهم ما لم يتوفر المناخ الثقافي الذي يسمح بتداول الأفكار وتزاوج الرؤى، فصوت المثقف من السهل خنقه ومن اليسير تشويهه"، خصوصاً أن الثقافة السائدة في بلدان العالم الثالث هي التي تسيطر على وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم ومجالات العمل والتوظيف، وهي "تبرمج الناس في أي اتجاه، بل تعيد برمجتهم لصالحها كلما تغيرت الظروف أو تبدلت المواقف". ولا يستطيع المثقف خالي اليدين التواصل مع الناس إلا بالقدر الذي تسمح به الثقافة السائدة، إذ أن وسيلة التواصل الوحيدة التي يملكها هي الكتابة والتي تحتاج بالبداهة إلى من يقرؤها، بينما نحن أمة لا تقرأ إلا في حالة الدراسة النظامية، و"الناس في المجتمعات العربية يعتمدون في تكوين ثقافتهم على ثقافة المشافهة والسماع، فهم يسمعون الإذاعات ويشاهدون التلفزيونات وينصتون للخطب ويستغرقون في أحاديث المجالس، وهذه هي مصادر ثقافة أكثر الناس في المجتمعات العربية"، مشبّهاً حال المثقف العربي بمن "يحاول استزراع الصحراء الجدباء الحارقة دون أن يتوفر لديه أي شيء من وسائل الزراعة"، وأنه لا يملك سوى الفكر والمعرفة والرغبة الصادقة، بينما "السماء صحوٌ لا تُمطر والأرض جدباء لا تُنبت، والشمس لاهبةٌ تحرق النبات الغض فتحيله إلى رماد تذروه الرياح". ويرى البليهي أن أمة العرب لا ينقصها المفكرون والمثقفون، وأن المعضلة ليست في أنه "لم يخرج فينا أمثال فولتير، بل لو أن فولتير نفسه ظهر في الوطن العربي لذهب دون أن يترك أي أثر، بل لرماه أهله بالزندقة"، كما حصل مع ابن رشد الذي أحرقنا كتبه، وابن خلدون الذي لم ندرك قيمته إلا بعد أن ذاع صيته في الأوساط الغربية، "فالمعضلة ليست في عدم وجود المفكرين، وإنما في عدم الاستجابة لهم وإدانتهم والتحذير منهم"، ومن ثم فإن هذا المفكّر أو المثقف الذي لم يُهضم يوماً ولم ينصت له أحد، يذمُّ بلا ذنب اقترفه.