إذا كان التغيير الثوري الذي يقترن بإزاحة حكم ما ضرورياً في بعض الحالات حين يستعصي الإصلاح التدريجي الهادئ، فهو لا يخلو من تداعيات سلبية قد تحرفه عن أهدافه إذا لم يوضع حد لها. ومن أخطر هذه التداعيات شيوع الميل إلى الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات، واستسهال العنف سواء اللفظي أو المادي بأشكاله المختلفة. هذا هو درس التاريخ الحديث منذ الثورة الفرنسية عام 1789، عندما كانت الرؤوس تتدحرج من المقصلة. ورغم بلاغة ذلك الدرس ووضوحه، فضلاً عن الشهرة التي حظي بها، فقليلة هي منذ ذلك الوقت الثورات التي استوعبته ونجحت في تجنب شيوع "ثقافة الانتقام" التي ما أن تنفلت حتى تتجاوز تصفية من يُعتبرون أعداء الثورة لتشعل النار بين القائمين وأنصارها. وجاءت العبارة البليغة القائلة "الثورات تأكل أبناءها" معبرة بدقة عما يحدث حين يشيع الانتقام ويزداد الميل إلى تصفية الحسابات. وهذا أحد أهم الأخطار التي تهدد التغيير الذي يحدث في مصر الآن جرَّاء الميل العارم إلى الانتقام من النظام القديم بلا حدود، فضلاً عن الشراسة الغالبة في تصفية الحسابات بين من يُفترض أن يبنوا معاً النظام الجديد، خصوصاً في ظل ازدياد حدة الانقسام بين قوى إسلامية وأخرى مدنية، وإعادة إنتاج التوتر الطائفي على خلفية احتقان متراكم على مدى عقود. وفي هذه الأجواء، ينشغل الناس بأنباء التحقيقات مع قادة النظام ورجاله ومحاكماتهم وينتظرون المزيد كل يوم، بينما ينتهز البعض الفرصة لتصفية حسابات شخصية وصغيرة عبر تقديم بلاغات كيدية لا نهاية لها. ولا يعني ذلك عدم محاكمة رجال النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم ومخالفات، وإنما عدم الانشغال بها عن المستقبل ووضع مدى زمني لتقديم البلاغات التي تنهال على الجهاز القضائي كالأمطار الغزيرة. فلم تحدد السلطة الانتقالية وقتاً معيناً يتوقف هذا الجهاز بعده عن قبول مثل هذه البلاغات، بخلاف ما حدث في بلاد شهدت تغييراً جذرياً بدورها، لكنها وضعت سقفاً زمنياً لهذه العملية. وكان هذا السقف أحد عوامل نجاح التغيير الذي قد يصبح معَّرضاً للانتكاس إذا ظل الناس مشغولين بتصفية حسابات قديمة ومنصرفين عن تحقيق إنجازات جديدة ومنغمسين في أجواء يصعب بناء ديمقراطية حقيقية في ظلها. فليس ممكناً التطلع إلى مثل هذه الديمقراطية، التي كانت الهدف الأول للتغيير، بدون ثقافتها التي يعتبر التسامح أحد أهم مكوناتها. وما الانتقام والتشفي إلا نقيص هذا التسامح الذي ما زال بعيداً. فلم تنجح ثورة 25 يناير في بناء ثقافة التسامح، مثلما فشلت جهود بُذلت على مدى سنوات قبلها في وضع أساس له. فكم من دراسات وكتب ومقالات نُشرت، ومؤتمرات وندوات عُقدت، عن موضوع التسامح الذي أُنشئت جمعيات أهلية ومؤسسات بحثية من أجله في السنوات الأخيرة. غير أن ذلك الاهتمام الواسع بدرس التسامح وتأكيد أهميته عابه التركيز على التسامح الديني، الذي طغى على غيره. وهذا اختزال للمعضلة، لكنه ليس من النوع الذي كان يمكن أن يؤدي إلى حل جزئي لها، وإنما من نوع زادها تفاقماً. فعندما نحصر قيمة التسامح في إطار الدين فقط، فكأننا نريده وسيلة لمواجهة التعصب الديني فقط، وأداة لمحاربة الجماعات الأصولية التي تحمل لواء التعصب. وحين نفعل ذلك، قد لا نجني سوى مزيد من التعصب على كل صعيد. فالتسامح لا يتجزأ، مثله مثل التعصب. وهو يبدأ بأن يسمع كل شخص الآخر وينصت إليه ويبحث في كلامه عما يمكن الاتفاق معه، وليس عما ينبغي رفضه أو استنكاره فقط. وفى تراث أمتنا ما يدل على هذا المعنى، مثل قول الإمام الشافعي "رأيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، لكن أين هذا المعنى حين يعتقد المرء أن رأيه هو الصواب بل الحقيقة المطلقة، وأن رأي غيره ليس خطأ فقط ولا يحتمل أي صواب فحسب، بل هو ضلال مبين وشر مقيم! وقد لا يمكن التطلع إلى المعنى المتضمن في كلام الإمام الشافعي إلا حين يعم الاقتناع بأن في كل رأى جزءاً من الحقيقة مهما بلغت مساحة الاختلاف. وهذا هو المعنى البسيط جداً للتسامح، أو قل إنه الحد الأدنى المعقول لكي تستقيم الحياة في أي مجتمع. فليس ضرورياً أن يعرف كل مجتمع مستويات عالية من التسامح. وليس ممكناً إقامة فردوس على الأرض. ولا مجال، إلا على سبيل الاستثناء، لمدن تسامح فاضلة من النوع الذي تطلع إليه بعض الفلاسفة الليبراليين مثل كارل بوبر الذي حلم بانتخابات يبدأ المرشح فيها حملته بإعلان أنه اكتشف -مثلا- خلال العام المنصرم أنه ارتكب واحداً وثلاثين خطأً وسعى إلى تصحيح ثلاثة عشر منها. ولأن هذه حالة نادرة، فهي تدخل ضمن ما يمكن اعتبارها "يوتوبيا" التسامح التي لا نحتاج منها إلا القليل. والمفترض أن هذا القليل هو جزء من الطبيعة البشرية نفسها، وهو ما عبر عنه فيلسوف الحرية فولتير بقوله إن التسامح يرتبط بالطبيعة الإنسانية بشرط أن تكون متحررة من المخاوف والخرافات وخالية من التشوهات. وبغض النظر عن مدى الاتفاق مع فولتير في رؤيته هذه، فقد ثبت أن مقداراً معيناً من التسامح لا غنى عنه لكي تستقيم الحياة في المجتمع بل لصون حياة الناس التي قد يهددها اشتداد التعصب أو احتدام الغضب. وقد كان للغضب الذي تراكم في المجتمع المصري على مدى عقود مبرراته القوية لأن الظلم كان شديداً والفساد كان عظيماً. لكن ثقافة التسامح تضع حداً للانتقام الذي ينتجه هذا الغضب قبل أن ينفلت ويتجاوز الخيط الفاصل بين السعي إلى العدل وبالتالي محاسبة الظالمين والفاسدين، والركض وراء الانتقام دون حدود وبلا نهاية. وحين يحدث هذا الانفلات قد يحمل في طياته خطر انفجار العنف الكامن في عمق المجتمع. ولا سبيل إلى النجاة من هذا العنف إلا عبر تدعيم قيمة التسامح. والخطوة الأولى هي تشجيع الحوار المجتمعي وحفز الناس على الانخراط فيه، عبر إثبات جديته وتأكيد جدواه من خلال استجابة السلطة الانتقالية واسترشادها بالاتجاهات التي تظهر خلاله وإعطائها العناية الكافية. وفى مجرى مثل هذا الحوار، ينشغل الناس بالمستقبل ويقل نزوعهم إلى الانتقام يوماً بعد آخر، وينتقلون من الهدم إلى البناء. وأهم ما يترتب على ذلك هو إدراكهم أن الاختلاف ليس خطيئة بل نعمة، وأن تنوعهم فضيلة لأنه يثري الحياة إذا أدى إلى تنافس إيجابي يسعى فيه المتنافسون إلى تدعيم قدراتهم والحصول على مزيد من المعارف والمهارات. وحين يعرف الناس ذلك ويعونه، سيتركون الزهور تتفتح كلها وسيكفون عن محاربة ما يختلفون معه لمجرد أنه لا يروق لهم وسيتوقفون عن إنتاج ثقافة الانتقام والكراهية. وعندئذ يتحول الاختلاف إلى نعمة كبيرة تساهم في تحقيق النهضة.