المأمول ألا تكون تلك المقامرة استراتيجية.. ولكنها لاشك كانت جزءاً رئيسيّاً من قرار "الناتو" الخاص بشن حرب جوية ضد القذافي منذ ثلاثة أشهر على وجه التقريب. فعندما بدأ القصف في شهر مارس، كان أمل قادة فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، هو أن ينهار القذافي جراء الصدمة والرعب اللذين ستسببهما له نيران الأسلحة الحديثة، وأن يستمع الضباط الليبيون إلى نصائح نظرائهم الأوروبيين، ويطيحوا بزعيمهم. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. وبدلًا منه وجد كل من ساركوزي، وكاميرون، وأوباما أنفسهم متورطين في حرب ممتدة من اختيارهم، لم يهتم بها أحد منهم كما يجب في البداية. وقد قرر حلف "الناتو" توّاً تجديد مدة التزامه الأصلية بالعمل العسكري في ليبيا (90 يوماً)، لمدة ثلاثة أشهر أخرى.. كما أدلى وزير الخارجية البريطاني "ويليام هيج" بتصريح لهيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي" قال فيه: "إن القصف الجوي قد يستمر حتى نهاية هذا العام". ومما يدعو للدهشة في هذا الصدد أن الحرب لم تصبح هي الموضوع المهيمن الذي يشغل اهتمام الجمهور في أي من البلدان المشاركة في هذا المجهود الحربي. والأكثر مدعاة للدهشة أن ذلك لم يحدث في إيطاليا، التي لجأ إليها آلاف المهاجرين من شمال إفريقيا عن طريق البحر، في حين لقي مئات غيرهم حتفهم غرقاً بعد أن تحطمت السفن والقوارب المتداعية التي كانت تحملهم، وجرفت الأمواج جثثهم إلى الشاطئ. وقد خلقت ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا أزمة مصغرة في جزيرة لامبيدوزا الواقعة على بعد 180 ميلاً من ليبيا، وذلك بعد أن استقر بها 4000 مهاجر في معسكرات لجوء. وفيما عدا تلك الجزيرة، فإن مشكلة المهاجرين، والحرب نفسها، نادراً ما شغلت اهتمام الجمهور، أو شغلت "المانشيتات" الرئيسية في الصحف الإيطالية. وأكثر ما يهم الإيطاليين في الوقت الراهن هو الاقتصاد والوظائف، وفضائح كرة القدم التي لا تنتهي، وما إذا ما كان برلسكوني سينجو في نهاية المطاف من المحاكمة التي تجرى له في الوقت الراهن في ميلانو بتهمة التغرير بفتاة قاصر. أما ليبيا فلا تثير الكثير من اهتمامهم. إن ما يمكننا استنتاجه من هذه الحالة، هو أن الدول الغربية يمكن أن تشن حرباً لشهور، دون أن تثير الكثير من اهتمام شعوبها، طالما أن القوات الغربية لا تحارب على الأرض، وطالما أن الطيارين الغربيين لا يقتلون ولا يقعون في الأسر. ولكن، لو استمرت الحرب لفترة أطول، ربما يكون هناك احتمال لتكبد تكلفة سياسية، خصوصاً بالنسبة لساركوزي وكاميرون اللذين كانا من أوائل من روجوا للتدخل في ليبيا، ومن أكثرهم حماسة. أما أوباما فقد يكون أقل تعرضاً لذلك من ساركوزي وكاميرون. فهو من البداية كان حريصاً على الحد من دور الولايات المتحدة في العمليات القتالية، عندما رفض بشدة مناشدات الدولتين لنشر طائرات إسناد جوي قريب تطير على ارتفاع منخفض، لا تمتلكها القوات الجوية الأوروبية، لاستخدامها في القتال الذي كان محتدماً في مصراتة. وفي الوقت الراهن يهرع قادة "الناتو" للبحث عن تكتيكات تجبر القذافي على الاستسلام مثل التصعيد العسكري، أو تقديم المساعدات للثوار، أو الوساطة الروسية. ويفكر هؤلاء القادة في الوقت الراهن في خيار ربما لا يضطر القذافي من خلاله إلى مغادرة ليبيا أو الوقوف في قفص اتهام المحكمة الجنائية الدولية. ولكن القذافي يبدي اهتماماً ضئيلاً بموضوع الخروج المشرف، وهو ما يعني أن "الناتو" قد يضطر عما قريب لاتخاذ قرار صعب. فإذا ما تبين لبريطانيا وفرنسا بشكل كافٍ أن الضربات الجوية لا تحقق المفعول المطلوب فإنهما قد تضطران لإرسال قوات برية تقاتل على الأرض، باعتبار أن ذلك سيكون أسرع وسيلة لإنجاز المهمة. وفي صراع الإرادات بين القذافي و"الناتو" من المرجح أن يكسب "الناتو" في الأمد الطويل. فعناد القذافي حتى الآن يرجع لأنه يدرك أن بقاءه على قيد الحياة قد بات معرضاً للخطر، وأنه لم تعد هناك خطط تقاعد مريحة للطغاة في الشرق الأوسط. ولكن ساركوزي، وكاميرون، أيضاً في حاجة ماسة لكسب الحرب هناك حيث رهنا قدراً كبيراً من مكانتهما كقائدين على محصلة تلك الحرب. وهنا قد يخطر على الذهن سؤالان يتصلان ببعضهما بعضاً هما: هل يمكن لهذه الحرب التي بدأت على أساس وعد أو اعتقاد بأنها ستكون سريعة، ومنخفضة التكلفة، وتهدف للحيلولة دون وقوع كارثة إنسانية، أن تظل تمثل رهاناً جيداً إذا ما تواصل القصف حتى الكريسماس؟.. أم أن الطريقة الوحيدة لإنهائها هي أن يضع "الناتو" جنوداً على الأرض؟ لقد كانت مساعدة ثوار ليبيا ضد القذافي، فكرة جيدة في شهر مارس، عندما بدأ التدخل العسكري لحلف "الناتو" في ذلك البلد.. ولا تزال كذلك حتى اللحظة الراهنة.. أما صعوبة تحقيق الهدف المتوخي منها فكان يجب ألا تمثل مفاجأة لأحد. وفي بداية الحرب، خاطب كاميرون برلمانه المتردد قائلاً: "إن ليبيا ليست العراق". لا خلاف على أن طرابلس بخصائصها الغريبة تختلف تماماً عن بغداد. ولكن الحرب تعلم الأوروبيين شيئاً تعلمه الأميركيون منذ عدة سنوات على ضفاف نهر دجلة وهو أنه: ليس من المهم إلى أي حد قد تبدو القضية جذابة ومقنعة، وإنما المهم هو أن التدخل العسكري قلما يكون رخيصاً وسهلاً على النحو الذي قد يبدو عليه في البداية. دويل مكمانوس كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم.سي.تي إنترناشيونال"