أعترف أنني فوجئت بتبني الجماهير العربية الأسلوب السلمي في مواجهة الاستبداد في مجتمعاتها، وهو تبني أثبت جدواه في ثلاث وانحرف في واحدة هي ليبيا، وربما في طريقه للامتحان في سوريا... وسوف نرى وعي الجماهير. لكن الكفاح اللاعنفي يعتمد في عمقه على فلسفة خاصة به؛ فالمجتمع يكوِّن الإنسان ثقافياً ويوحي إليه من حيث لا يشعر أن البطل هو من يأخذ حقه بذراعه وأن "السبع" هو من ضرب وأخاف العباد وخلق لنفسه هالة وأحيط بهيبة من الأتباع. وإذا جاء الطفل إلى أبيه باكياً أن أحداً ضربه في الحارة، قال له: ولماذا لم تضربه؟ فهذه هي مسلمات التربية في مجتمعنا وعليها ننشأ وكل سلوكنا اللاحق مبني عليها دون أن نقبل في ذلك نقاشاً أو جدلاً. إذا مد أحدهم يده إلينا بالضرب رددنا عليه الصاع صاعين والكف كفين وجعلنا وجهه عظة وعبرة للآخرين! وكما قال الشاعر العربي قديماً: (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم). إنها مفاهيم منغرسة في تربتنا الثقافية، وتشكل سلوكنا اليومي وتحكم تصرفاتنا، ونحن نعتبر أن هذا هو الطبيعي، وإنه أمرٌ مخجل وعارٌ ما بعده عار أن يهجم عليك أحد وتقف مكتوف الأيدي دون النزول إليه في حلبة الوغى وتهشيم أضلاعه! وفي دمشق سألت سيدةً فاضلةً تؤمن بالمفاهيم السلامية وتعمل مديرة مدرسة: هل استطعتم إيجاد نموذج للطفل السلامي؟ فكان جوابها: ولا طفلاً واحداً. وعندما ذهب جودت سعيد، الداعية السلامي المعروف، إلى مؤتمر في بلد عربي، كان السؤال الأول الذي وجهه إليه مفكر إسلامي: أأنت الذي يقال عنك إنه إذا ضربك أحد لم تدافع عن نفسك؟ فقال: نعم، ولست الأول في ذلك، فهذا ما فعله رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر أتباعه بالصبر: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة. وكانت مثل تلك التعليمات للإنسان العربي البدوي في ذلك الوقت، والمعتاد على القتال والانصياع للحمية، أمراً في غاية الصعوبة، لكن الإسلام لم يرب أتباعه على هذا المنهج بدون مبرر قوي، وهو ما نحن بصدد تحليله من الناحية النفسية. الغريزة تقول إن من مد يده إليك رددت عليه، فهذا منعكس ثابت في الطبيعة بين الفعل ورد الفعل وهو قانون الغابة، لكنه قانون يلغى قانون المجتمع. الغابة تقوم على قانون أن القوي يأكل الضعيف من فصيلة أخرى، وهكذا تطارد مجموعة من اللبوات جاموساً لافتراسه، أو تحدق عصابة من الضباع بغزال شارد فتقفز لتنهش لحمه. أما القانون الاجتماعي فمن نوع مختلف. وهكذا، فالتصارعات بين الأفراد لا تحل بـ"الذراع" بل بالقانون، أي أن هناك "سلطة" تفصل بين الناس. ومعنى أن يأخذ الإنسان حقه بـ"ذراعه" إلغاء قانون المجتمع والعودة إلى قانون الغابة. لكن المجتمع الإنساني لم يتطور بسبب القوة العضلية بل بسبب قوة الفكرة، وقوة الإنسان لا تأتي من عضلاته بل من فكره وإنتاجه. وهذه النقطة هي سر إلغاء العنف في المجتمع داخلياً إلى حد كبير، وفشله في حل النزاعات الدولية حتى اليوم. ومن هنا نقول إن ممارسة العنف داخل المجتمع هي إلغاء لهذا المجتمع، لكن أكثر الناس لا يعلمون.