أدى تسونامي الاحتجاجات العربية الراهنة إلى تسونامي مماثل في التحليلات والمؤتمرات. وبإحصائية تقريبية، فإن متوسط ما عُقد خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من مؤتمرات وورش عمل -داخلياً وخارجياً- ومن واشنطن إلى بروكسل أو سنغافورة، بلغ في المتوسط ما بين 4 و5 لقاءات في الأسبوع. وفي هذه الظروف تنبه العالم وضمنه الطون العربي إلى أهمية علماء السياسة العرب، الذين يجدون الآن صعوبة في تلبية الدعوات المتزايدة، فهل حانت فرصتهم للإجابة بوضوح ومهنية على الأسئلة المتزايدة والملحة لدى الرأي العام العربي والعالمي، ووضع البذرة السليمة لعلم سياسة عربي مرتبط بواقعه وليس رهيناً لنظريات مجردة أو مقولات دخيلة. بفضل احتجاجات الشارع العربي حانت فرصة علماء السياسة العرب لكي يضعوا جانباً غيرتهم من زملائهم في علم الاقتصاد أو القانون الذين عُوملوا عادة كخبراء لا يمكن التجرؤ على مجالهم، بينما يتكلم في السياسة "كل من هب ودب تقريباً". حانت الفرصة إذن لوضع حد لإهمال علم السياسة وما يستطيع أن يقدمه فعلاً، ولإقناع قطاعات كبيرة من الرأي العام بأهمية التخصص الذي ينتمي إليه علماء وضرورة علمهم. قد يكون هذا الإهمال لعلم السياسة بسبب حداثة هذا التخصص في معاهدنا، فلا يزال حتى جزء من جامعاتنا يتجنب هذا التخصص، ولنتذكر أن أول كلية عربية متخصصة في علم السياسة هي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والتي أنشأت منذ نصف قرن فقط، بينما لا تزال بعض الجامعات تخلو من هذا التخصص أو تقوم بدمجه مع تخصصات أخرى، كما هو الحال في كليات القانون في دول المغرب العربي. قد يكون السبب أيضاً أن بعض علماء السياسة العرب يركزون على الجانب النظري من فكرهم وعلمهم، ولم ينجحوا حتى الآن في تطبيق نظرياتهم على أرض الواقع والبرهنة على أن ما يقدمونه لا غنى عنه، وأن غير المتخصصين لا يستطيعون القيام به. يبدو أن هذا الوضع في طريقه للتغير الآن، فمع الوضع العربي الجديد من جراء الاحتجاجات العربية التي غيرت نظامي الحكم في كل من مصر وتونس، ثم الحراك الجاري حالياً بدرجات متفاوتة في كل من ليبيا واليمن وسوريا... برز على السطح السؤال المحوري: إلى أين يتجه العالم العربي؟ ما ذا ينتظر دوله، أنظمة وشعوباً؟ وكيف تدار المراحل الانتقالية في هذه الدول؟ وما هي معالم التحول الديمقراطي العربي وسبل نجاحه؟ وقد أثارت مثل هذه الأسئلة المحورية نقاطاً لا يمكن لغير المتخصصين الإجابة عنها بدقة. فهي تتعرض مباشرة لنوعية النظم السياسية، وعوامل ضعفها وقوتها، متى تنهار ومتى تصمد، دور الانتخابات ومثالب تزييفها على المدى الطويل، أساس شرعية الحكم، وإسهام الأحزاب السياسية بين التأييد والمعارضة، وطرق إنشاء الأحزاب السياسية، ومثالب الاعتماد المفرط على الآلة الأمنية، وكيفية التوازن بين خشونة الأجهزة الأمنية وعدم الوقوع في فخ الانفلات الأمني والفوضى وسيطرة البلطجية..؟! للإجابة على كل تلك الأسئلة المحورية، يتعين التمعن في تجارب الآخرين، ليس فقط بعد انهيار الأنظمة الشيوعية منذ عشرين عاماً وتحوّل أوروبا الشرقية إلى الديمقراطية الليبرالية، ولكن أيضاً حصيلة التجارب في أميركا اللاتينية، والبرتغال وإسبانيا في التعامل مع المؤسسة العسكرية وتحجيم دورها أثناء مرحلة التحول الديمقراطي وذلك لمنع خطر الديكتاتورية العسكرية. والحقيقة أن الأسئلة التي تحتل الآن اهتمام الرأي العام وأجهزة الإعلام ليست جديدة بالمرة، بل تم التعرض لمعظمها منذ ما يقرب من ستة قرون مع فلاسفة علم السياسة، مثل الإنجليزي توماس هوبز الذي بحث في وسائل الحصول على الاستقرار السياسي في مواجهة فوضى المجتمع وطوائفه، وكذلك مع فلاسفة السياسية الفرنسيين أمثال مونتسكييه وتوكفيل اللذين كتبا حول ركائز الحكم الديمقراطي. ولا ننسى بالطبع العلاّمة ابن خلدون في القرن الرابع عشر الذي درس في "مقدمته" الضخمة نشوء نظم الحكم وازدهارها ثم انحلالها مع انصراف النخب الحاكمة عن إدارة السلطة إلى المتعة الزائدة والفساد. أعادت انتفاضات الشارع العربي هذه الأسئلة إلى المقدمة، وفي الحقيقة لا يستطيع تقديم الإجابة الشافية عليها إلا متخصصون في علم السياسة، ممن تمرسوا على تحليلها في قاعات التدريس أو في أبحاثهم وكتاباتهم، وبعض هذه التحليلات أسهم في تكوين شباب الاحتجاجات، وحالياً يبدو أن للرأي العام -داخلياً وخارجياً- آذاناً لسماع نتائج خبرتهم وعلمهم، فلنر كم عندنا من أمثال هنتنجتون صاحب نظرية موجات الديمقراطية وأسبابها، أو الأميركي ذي الأصول الهندية خريج جامعة برنستون الأشهر الدكتور فريد زكريا. فقد آن الأوان لتفعيل علم سياسة عربي مرتبط بواقع مجتمعه.