"الربيع العربي" كما يسمى، لا نعرف توجهاته ولا نعرف مساراته، والخوف أن يعود لنا الجفاف العربي الذي قادنا إلى الوهم وأدخلنا في عالم الظلام. فالجفاف العربي الذي أوهمنا بالتغير في حقبة الخمسينيات مازال يعشش في داخلنا ويمد الخوف فينا، فهو من شكّل شخصيتنا وجعلنا نشعر بالضياع. واليوم يقود الشباب مسيرة الربيع الجديد الذي مازال غامضاً بملامحه، لكن دعونا نستبشر خيراً ونقول: لكل حقبة نهاية، ولعل ما يحدث في المنطقة العربية هو بمثابة بداية لفهم جديد بين الحكام والمحكومين. ثمة قضايا ملفتة للانتباه، وهي قوة الوجود الفرنسي وإصراره على قيادة التغيير. ويبدو أن فرنسا تسعى لإعادة وجودها بحكم معرفتها بالمنطقة العربية، وما كان لمجلس الأمن أن يتخذ قرراه لولا الضغوط الفرنسية لتنحية القذافي، "عميد القادة العرب" كما يسمي نفسه. يبدو من الواضح أن فرنسا تسعى لتثبيت وجودها ومركزها الريادي، وهي تدفع الولايات المتحدة نحو تبني "الربيع العربي" لكي لا ينزلق إلى مسارات معادية للغرب. ولعل ما يحدث في سوريا يشير إلى الحضور الفرنسي في الشأن السوري. فبشار الأسد ليس معادياً للتغيير، بل كان قد اتخذ خطوات نحو الانفتاح قبل اشتعال الربيع العربي. وفي لقاء مع بعض الشخصيات السياسية السورية عرفت منهم جدية التوجهات الإصلاحية للأسد، لكن يبدو أن المدرسة القديمة باغتت الخطوات الجريئة وأجهضتها لإيمانها بمنطق الجفاف العربي. وهكذا دخلت سوريا أزمة كبيرة كما نرى اليوم. الربيع العربي الذي مازالت ملامحه غامضة، فرض وجوده. وهنا نستذكر الخطوة الجريئة لملك الأردن حيث وضع اختيار رئيس الوزراء ضمن اختصاصات البرلمان، وهي مبادرة تعبر عن نباهة وذكاء. ولعل ما يحدث في المغرب يقترب من الحدث الأردني حيث يسير العاهل المغربي نحو إحداث التغيير واستيعاب ضروراته. وبالعودة لفرنسا ودورها في المنطقة العربية، نجد أنها اليوم تخاطر بمصالحها في ليبيا وسوريا ولبنان، لكنها تدرك أنه بتبنيها لقضايا حقوق الإنسان تعيد المصداقية للتراث الفرنسي الذي سبق الأميركي في مجال الحريات العامة. ففرنسا ترى مصالحها من منظور جديد، وهذا ما يدعونا للتعاون معها من أجل اتخاذ خطوات جريئة في حل الصراع العربي الإسرائيلي والوصول إلى صيغة الدولة الفلسطينية التي تضمن الحق والعدل للشعب الفلسطيني، لاسيما أن لدينا مبادرة عربية لتحقيق السلام قادتْها السعودية، وهي مبادرة جريئة لم تُفهم في وقتها ولم يُقدِّر العالمُ قيمتها. الأوراق تتغير من جديد، فمصر تسعى لاستعادة موقعها الريادي في الساحة العربية، وروسيا المتوجسة من الربيع العربي تتراجع، والصين تعيد حساباتها، وأميركا لا تريد لفرنسا التفرد بالمنطقة فتسعى مع أصدقائها وحلفائها لاستيعاب المرحلة. الساحة العربية تشهد تغيرات كبيرة، ولعل تركيا أيضاً تتغير وتعيد حساباتها، فقد نجحت في فرض وجودها ولا تريد أن تخسر موقعها الاستراتيجي، خصوصاً وأن كل المؤشرات تشير إلى نفوذ متزايد لـ"حزب العدالة والتنمية" الذي فاز بالانتخابات الأخيرة بعد أن نجح في قيادة البلاد على مدى فترتين متتاليتين. ولعل نجاحات النموذج التركي في المواءمة بين الأصالة والحداثة تقدم درساً للحركات الإسلامية العربية فيما يتعلق بالحاجة لتغيير مفهومها حول الدولة المدنية بمعناها الجديد.