بعد الأحداث الكبرى والصغرى، التي اجتاحت العالم على الأقل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي والمجموعة التي التفَّت حوله، نشأت حالات متعددة تشد إلى العودة إليها. وإذا كان سقوط الاتحاد السوفييتي قد قدم أنموذجاً حياً لاذعاً لـ"المفاجآت" التاريخية الكبرى، فإن انتفاضات الشباب العربي قد تكون - بالنسبة إلى التاريخ العربي وتاريخ بلدان عالمثالثية إضافة إلى التاريخ الغربي عموماً واجمالاً- أكثر إثارة إلى التساؤل المعرفي والسياسي والاستراتيجي. فهذا التاريخ الأخير (الغربي) انتظم في مسار مُنتظم تُمثل "المفاجآت" فيه أحوالاً لا تبدو "كأنها" ناشزة شبه خارجة عن السِّرب. وقد يكون أحد العوامل الكامنة وراء ذلك انتظامه (أي ذلك التاريخ) فيما يعتبر "خصوصيتها التاريخية"، النسبية على كل حال. فالنظام الرأسمالي هو - في هذه الحال- الحقل التاريخي الناظم والذي تجري فيه الأحداث، وبالطبع، فإن هذا القول يصح مع نشأة ذلك النظام خصوصاً في القرن التاسع عشر، ومع اتساع عوالمه وكذلك هيمنته، حتى الآن، في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا، وربما في مناطق أخرى. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى ما كنّا سابقاً ندعوه "عالم التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية المتعددة"، والعالم العربي ينضوي فيه. فها هنا، يكاد الأمر - حتى مرحلتنا الراهنة- ألا يكون قد حُسم نهائياً لصالح تشكيلة اقتصادية اجتماعية واحدة حاسمة، بالرغم من مجيء العولمة، التي تسعى لتحويل العالم إلى "قرية كونية واحدة" على طريقتها السوقية، ضمن هذه البنية المركبة، يختلط الحابل بالنابل، ويصبح التطور حالة معقدة، وتضم عدداً من المخاطر والمشكلات. وثمة نقطة حساسة هنا، هي أن عملية تطويرية أو إصلاحية في حقل ما من الحقول العربية، يمكن أن تثير من الأسئلة ومن المعضلات ما قد يعقد تلك العملية، بسبب من غياب الإتِّساق والتوافق بين الحقول المجتمعية القائمة في بلد عربي أو آخر. ضِفْ إلى ذلك غياب التخطيط والتنسيق الحقيقيين في المجتمعات العربية، حتى الآن. وقد نستطيع أن نسوق عوامل أخرى كثيرة تكمن وراء واقع الحال العربي الراهن، وهذا ينطبق على جيل الشباب المتحدرين من كل الفئات والطبقات المكوِّنة لجموع الشباب في البلد الواحد، بحيث يمكننا القول بأنه حتى لو تحدثنا عن حدّ ضروري من التجانس الجيلي بين الشباب، فإن امتداداتهم وتحدّراتهم من كل المرجعيات المجتمعية العربية القائمة، بعُجرها وبجرها، يمكن أن تُعيق ولادة ذلك التجانس. ومع هذا وعبر اختزان المآسي والانكسارات والأحلام الخائبة من جهة، وعبر الإذلال في قضايا الحرية والخبز والكرامة من جهة أخرى، كان شبابنا يلتقطون من عناصر التمرد والكفاح والتحدي التاريخي ما راح يتحول إلى موقف تاريخي شبابي يكاد يكون فريداً: لقد قرروا مع إخوتهم شباب تونس ومصر وليبيا وسوريا وبقية البلدان العربية، أن ينهضوا! لقد قرروا أن يكسروا آلية قانون الاستبداد الرباعي، مع فتْح ملف الثورة الفلسطينية، فانتفضوا في فصْل من أجمل فصول الحرية. لقد أخذوا من سبارتاكوس وممن سيأتي على الطريق التاريخي (والعربي من ضمنه بل -في هذه الحال- في مقدمته)، ما راح يجعلهم فاتحي تاريخ عربي جديد. من هنا، كانت الإشارة التي أتينا عليها في المقدمة، ذات أهمية خاصة، حين أعلنا أن ما يقوم به شباب العروبة (بكل معانيها التاريخية الناهضة)، إنما هو حال من النهوض من الاستبداد الرباعي باستئثاراته الأربعة، بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية. وحين يُحيل باحثون وصحفيون ذلك العمل الشبابي العربي البطولي إلى "مُنْدسين وسلفيين ومتآمرين من الداخل والخارج"، فهم -بهذا- يُنكرون مسيرة التاريخ وضرورة إعادة البناء كلما دعت الحاجة في بلدان عربية، تكاد تكون قد أُخرِجت من التاريخ البشري. د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق