خلال النصف قرن المنصرم حاول بعض المثقفين والصحافيين إقناع الساسة بضرورة التنفيس السياسي عن الناس، محذّرين من احتقانٍ شرس ربما يأتي على مقدرات الوطن من خلال عددٍ من الوسائل، تارةً عبر الانضمام لعصابات الإجرام والمخدرات، وتاراتٍ أخرى من خلال الانضواء وراء ألوية الإرهاب، والانجرار وراء تنظيم "القاعدة" وغيره من التنظيمات المتطرفة، والمسلحة أحياناً، وحدث بالفعل ما تم التحذير منه، فنشأت التنظيمات وانتشرت بشراسة كل ملامح الإرهاب. ثم حين تمت محاصرة "القاعدة" ظنّ بعض الساسة أنهم أمنوا مكر الليل والنهار، إلى أن جاءتهم الثورات من حيث لم يحتسبوا، لهذا صُعق القذافي وبشار وصالح، الأوّل تم استهدافه وقتل بعض ذويه، والثاني وجد السحق خير وسيلة للدفاع، والثالث يعاني الأمرّين معالجاً خارج الوطن وكرسي الرئاسة! لا أدري ما إذا كانت عادة عربية أن البعض لا يستبين النصح إلا ضحى الغد! أعلم أن السلطة لها سحرها وبالذات حين يكون الحكم عسكرياً وديكتاتورياً، كان الرئيس الراحل رفيق الحريري مجدّاً في نقد ذاته، كان يقول إن من حوله سحروه بحلو الكلام، وأنه الأحكم والأعلم، والأكرم والأجمل والأوسم، سحروه بمعسول الحديث حتى لم يعد يسمع من ينتقدونه، إلى أن أفاق وبدأ يعيش مع الناس بسيطاً قريباً، يتناول قهوته بين أنصاره ومحبيه وناخبيه في المقاهي والمطاعم يخصص لظهوره معهم وقتاً في بعض الصباحات، هذا الرئيس الراحل رحمه الله استبان النصح ثم غُدر به ورحل عن دنيانا، لكن بعض الزعماء الآخرين لم يستبينوا النصح، فهم لا يزالوا في منعرج اللوى. الثورات الحالية عبارة عن تنفّس اجتماعي، الناس يستحيل أن تبقى مخنوقة طوال الحياة، من خلال منع الحريات في النقد والتعبير وحجب مواقع الإنترنت والبطالة ونهب الثروات واحتكار السلطة والاستبداد بالمال العام، والبعد عن هموم الناس ومنع التجول، وقوانين الطوارئ، هذه العوامل باستطاعتها أن تحول الأرانب إلى سباع، فضلا ًعن بشرٍ يعانون من مرارات القهر منذ سنوات طوال، وبعضهم ربض على قلوبهم طغاة عتاة منذ أربعين عاماً حكموها بالتصحير والتجويع والخرفنة وقمع الحريات وتجهيل الناس وفرض الجهل على المواطنين ومنع السؤال أو الاستفسار وتكييف الناس على غرائب الأطوار، إنه تنفس طبيعي أن يخرج الناس إلى الشارع، أن يحرق بائع متجول نفسه بالبنزين والنار، أن يموت الناس أمام الدبابات والمجنزرات بإرادتهم، لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم فقدوا قيمة الحياة ومعنى الحياة. إن القمع لا يولد سوى الانفجار الشعبي، ولعل الزعماء الآخرين من خلال الإعلان عن إصلاحات أو انفراجات اقتصادية وسياسية وفكرية وإعلامية يمنحون الناس فرصة الولاء لهم والبقاء في مكانٍ آمنٍ وفي ولاءٍ وانسجامٍ بين المجتمع والقيادة، وأن لا تكون إصلاحات متأخرة بعد أن ينشب التحرك، لان الإصلاح المتأخر مثل عدم الإصلاح عبارة عن لاشيء، مجرد عقم وإفلاس حقيقي، لهذا فإن السعيد من وعظ بغيره كما قالت العرب. السؤال الذي أطرحه على الناس والمجتمعات الثائرة، ما المشروع القادم الذي لديكم؟ يحزنني أن أرى الثورات الناجحة في مصر وتونس، والتي أخذت متطلباتها بأقل الخسائر، وقد أسلمت لواقعٍ غامض، نعم ليكن للشباب حضورهم في الحكومات المقبلة، أو في المناصب العالية، لكن الخبرة ضرورية وأساسية لإنتاج مستقبل أفضل، كما أنني أتمنى أن لا يلتفتوا إلى أصحاب المشاريع الشمولية من ماركسية أو إسلامية أو سواها سواءٌ كانت الأحزاب شيوعية أو إخوانية، وأن يكون الانجذاب نحو المشروع المدني ونحو تحقيق حرية الفرد وسلطة القانون ومدنية الحياة والواقع ... هذه أمنيتي! تركي الدخيل www.turkid.net