يخطئ بعض المحللين عندما يظنون أن الديمقراطية تترسَّخ جذورها بمجرد حلول ربيع الانتخابات بصفة دورية ومستمرة؛ فالديمقراطية معادلة صعبة يدخل فيها السياسي والتنموي، إذ بدون تنمية اقتصادية وتنمية مستدامة تَعوَجُ أغصان شجرة الديمقراطية بل قد تذبل ويصيبها الأذى ويحكم عليها بالزوال إذا لم تعمم الحكمة بسرعة، وتروَ الجذور بماء التنمية البشرية المستدامة والحكامة الجيدة. وبالإمكان أن تنجح هذه العملية إذا كان هناك عقلاء مختصون يخططون وينفذون نمطاً للتنمية يمكن الإنسان بدلًا من تهميشه من توسيع فرصه وخياراته، ويقوم بالتركيز على دور البشر ككائنات فاعلة لا مستهدفة بتدخلات محدودة أو مقيدة في الزمان والمكان. إن التنمية هي انبثاق ونمو كل الإمكانيات والطاقات الكامنة في كيان معين بشكل كامل ومتوازن، سواء كان هذا الكيان فرداً أو جماعة أو مجتمعاً، ويرى "شرام" و"ليرنر" أن التنمية ما هي إلا تغيير قوي وكبير يحرك الأمة نحو ذلك النوع من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتحددها لنفسها. وتكون بذلك التنمية وسيلة للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل وأيضاً زيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع. فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييراً جذريّاً في بناء اقتصادي قوي؛ كما تكون السياسة التنموية تعبيراً عن آراء المواطنين واستجابة لحاجياتهم؛ وتنفذ تلك التنمية موازاة مع تشريعات ضامنة وجريئة وسلطة قضائية مستقلة عن الجهازين التنفيذي والتشريعي، ومؤسسات قوية، وتفعيل مبدأ المساءلة والشفافية المطلقة والتداول السلمي للسلطة من طرف أحزاب متشبعة هي نفسها بقواعد الديمقراطية وبمجتمع مدني نشيط. آنذاك تكون الديمقراطيات الفقيرة معفية من ضريبة الدخول في عالم المجهول، وتتطور اقتصاداتها رويداً رويداً، وتتفوق مع مرور الوقت حتى على الحكومات السلطوية الغنية، لأن مؤسساتها بنت خريطة طريق تنموية صائبة تستثمر الطاقات والقدرات المادية والبشرية الموجودة في المجتمع، وتتحسن البرامج الاقتصادية والتنموية، ما دامت العلاقة قائمة على المحاسبة والمساءلة وليس على التخطيط المحدود والمحسوبية الضيقة التي لا تترك أي حافز لذوي السلطة في التركيز على رفاهية المجتمع. وتمتد السياسات التنموية إلى كل القضايا الإنسانية والبشرية، وقد أصبحت ترتكز على هدف التنمية الذي هو الإنسان، وأحواله الصحية والثقافية والسياسية، خلافاً للفترات السابقة حيث كان التركيز منصبّاً على وسائل التنمية المادية، أي على زيادة معدلات الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادي، وزيادة مستويات الاستهلاك من منتجات الصناعة الحديثة. وكما يلاحظ ذلك الأستاذ رشيد السعيد يصعب إيجاد كلمة واحدة في اللغة العربية تعكس بدقة الكلمة الإنجليزية Sunstainble التي تعني الديمومة والقابلية للاستمرار والتحمل؛ كما أن تقارير برامج الأمم المتحدة للتنمية المتعلقة بالتنمية البشرية تستعمل في ترجمتها إلى اللغة العربية، تعبير "التنمية المستدامة"، ويمكن أيضاً أن نستعمل في اللغة العربية كلمة "الدعم" تعبيراً عن معاني المفهوم. فالتنمية المستدامة هي التي تحقق ذاتيّاً ما يدعم استمرارها فتبقى تنمية متداعمة؛ ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة ما لم تكن مقبولة وتساندها فئة كبيرة من المجتمع؛ ولا مبالغة إذا قلنا إن مبدأ "الديمومة والاستمرارية" المعني في مفهوم التنمية، يوحي إلى الامتداد والصلة بين الأجيال، أي أن الجيل الحالي يجب أن يترك للأجيال القادمة مخزوناً كافيّاً من الموارد ونظاماً اقتصاديّاً وبيئيّاً محكماً ونمطاً تنمويّاً يمكن تلك الأجيال من الاستمرار في تلك التنمية. ونفس الشيء يقال عن الأحزاب السياسية عندما تصل إلى سدة الحكم، إذ يجب أن يكون تقديرها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية مبنيّاً على بعد النظر والديمومة والاستمرارية لا على حل للمشاكل الآنية بأعين عمي، لا تترك للأحزاب المقبلة التي تصل مكانها بعد انتخابات تطيح بها، سياسة تنموية واقتصادية يمكن جبرها والسير قدماً بسياسة أبقى وأنجع؛ فكم من الدول العربية فتحت باب القروض الدولية على مصراعيه ولم تستطع الحكومات المتتالية جبر الضرر ولا رد القروض إلى أهلها؛ وكم من حكومة بعد أن هبت رياح مظاهرة عوجاء قامت بتشغيل الآلاف من العاطلين عن العمل في المجال العمومي دون أن يكون ذلك مبرمجاً في قانون المالية السنوي، ونرى هذه الظاهرة بشكل جلي في بلداننا المغاربية بدون استثناء، ومهما بلغ ذكاء وزراء أي حكومة تقنوقراطية أو ذوي انتماءات حزبية إلا وقد تعجز حكومتهم عن تطبيق سياساتها التنموية التي أتت بها، لأن سالفاتها قوضت مبدأ الحكامة الجيدة، أي مارست السلطة الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والتنموية بصفة خاطئة وبتبعات مريرة. إن إدارة شؤون الدولة عملية صعبة؛ وليست الانتخابات لوحدها هي العلاج؛ ويمكن أن نرى اليوم ما يقع في العراق لنفهم الموضوع جيداً؛ فالمؤسسات من أحزاب وإدارات ومجتمع مدني وغيرها يجب أن تتمتع بعدة خصائص: كالمشاركة والشفافية والمساواة وسيادة القانون، والاهتمام والإجماع، والمحاسبة والمساءلة، والمراجعة والموازنة، ثم أخيراً الرؤية الاستراتيجية والكفاءة والفاعلية؛ وهذه الخصائص الأخيرة هي لب الديمقراطية الحقيقية ونواة ممارسة السلطة، إذ لا تقتصر على الاهتمام بالآثار التنموية الحالية وإنما تشتمل على التنمية المستدامة طويلة الأمد والممتدة عبر أجيال متعاقبة في المستقبل، وتكون الأحزاب السياسية صاحبة المنافسة داخل هذا الطريق السيار، توقفها عملية الانتخابات كلما رأت منظمات المجتمع المدني والأفراد أنها تجاوزت السرعة المسموح بها أو تباطأت في السير لتفسح المجال لأحزاب أخرى بعد أن يكون الطريق كله معبداً.