تشهد المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها حالة من الحراك السياسي والأمني غير المسبوق. وقد أتت التحولات العربية وما أحدثته من تسونامي ودومينو التغيير من تونس وليبيا في غرب عالمنا العربي، إلى العراق وسوريا واليمن في أقصى شرقه وجنوبه، مروراً بمصر ولبنان، ولا ننسى السودان وتقسيمه، والصومال وتشظّيه، وغيرها من دولنا ومجتمعاتنا العربية، لتضع الأحداث، بهذه الكيفية، المنطقة بأسرها على طاولة التشريح والفوضى والتقسيم والتجزئة. ولعل أكثر ما يعقد من موجة التغيير هو مقاومتها من قبل بعض الدول بالعنف المسلح للاستئثار بالسلطة ورفض التغيير. وهذا يشرع أبواب تلك الدول أمام الفوضى والحروب الأهلية التي تطل برؤوسها في ليبيا وسوريا واليمن. ويُضاف إلى ذلك التشكيك في أننا لن نشهد نهايات الحراك المأمولة قريباً. وكل هذا يدفع المنطقة برمتها إلى المجهول على جميع الأصعدة، وخاصة أن الحسم مازال غائباً عن كل تلك "الثورات" التي لا تزال تمر بمخاض عسير، ولم يصل أي منها، وخاصة المتعثرة، إلى الأهداف التي قام من أجلها، وبالتالي لم يحسم أي من تلك التغييرات غير المسبوقة. ومن المعروف أن الحراك والتحول يمر عادة بمراحل مؤلمة ومضنية في أي دولة ومجتمع يشهد تحركاً وتغييراً، ومناط الحكم عليه يبقى معلقاً على قيمته في نهاياته. وحتى في الدولتين اللتين شهدتا إسقاط نظاميهما، أي تونس ومصر، هناك الكثير من المخاوف والتساؤلات حول نتائج ذلك الحراك والتغيير، مع بقاء رموز وبقايا النظامين، وتراجع النمو الاقتصادي إلى أكثر من النصف، وضرب أهم قطاع للدولتين وهو قطاع السياحة خاصة مع دخول موسم الاصطياف. ومع تقديم النظامين المصري والتونسي مقترحات بزيادة الدعم والرواتب وخاصة في مصر بنسبة 15% مع بطالة وتضخم يتجاوز 12%، بدأت تبرز تشققات ومخاوف من انتكاسة وتراجع لإنجازات "الثورة"، بل سرت الخشية من اختطافها عن طريق ثورة مضادة. وفي مثل تلك الأحوال تبرز أكثر من هوة في الأولويات أثناء المرحلة الانتقالية، وكيفية التقدم نحو نظام جديد، وهي تدخل على الخط مرحلة عدم الاستقرار والتشكيك في نتائج حراك التغيير، فالعديد من منظمات المجتمع المدني في مصر تطالب المؤسسة العسكرية الحاكمة، التي لا تزال تبقي حالة الطوارئ، إلى إتباع نموذج تونس بوضع دستور جديد قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها نهاية هذا العام. ومع تأجيل انتخابات المجلس التأسيسي لإعداد دستور جديد في تونس حتى أكتوبر القادم، ومطالب قوية في مصر باعتماد دستور جديد قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هناك أسوة بالحالة التونسية الرائدة، وغياب جزئي للأمن والنظام وحتى تفشي "البلطجة" في بعض الحالات في تونس ومصر، وارتفاع وتيرة العنف والفوضى وزيادة لجوء المؤسسة العسكرية في مصر إلى المحاكمات العسكرية والتشدد حول حقوق التعبير والتظاهرات والإضراب، يصبح الأمن والوضع الاقتصادي هما طرفا المعضلة الرئيسية في البلدين. أما اليمن، وحتى قبل الربيع العربي، فقد تحول إلى دولة فاشلة بكل ما يعتمل فيه من تحديات ونزاعات. وللتذكير فإن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ثاني أطول حاكم عربي في السلطة (القذافي عميد الزعماء العرب)، يحكم اليمن منذ ثلاثة عقود. وخلال السنوات الماضية راجت فكرة أن بقاء صالح هو الخيار الأقل سوءاً ضمن الخيارات الصعبة والمعقدة المطروحة في اليمن لمواجهة سلة الأزمات والتحديات والتهديدات التي تعصف بالبلاد. ومع مرور الوقت بدا أن اليمن يتحول إلى الفوضى بعد دخول أميركا على الخط حين قامت باستهداف نشطاء "القاعدة" بطائرات بلا طيار. كما عادت مخاوف الحرب الأهلية مؤخراً بعد محاولة اغتيال الرئيس اليمني. واليوم مع تلقي صالح العلاج في المملكة العربية السعودية، مع رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء، يتكرس الفراغ السياسي، الذي قد يكون أيضاً فرصة لتفعيل المبادرة الخليجية مجدداً، بما يضمن عدم تحول اليمن إلى عود ثقاب آخر يقترب من برميل بارود المنطقة المحتقنة. أما بالنسبة لليبيا فقد وضعت مجموعة الاتصال في اجتماعها الثالث الأسبوع الماضي في أبوظبي، الخطط والدعم المالي لمساعدة الشعب الليبي. وقد دخلنا عمليّاً في مرحلة ليبيا ما بعد القذافي في خطوة واضحة تعبر عن إجماع عربي بقيادة خليجية لنزع الشرعية عن نظام القذافي، وتقديم الدعم السياسي والمالي للمجلس الانتقالي. ولكن الأوضاع لم تُحسم بعد في ليبيا وتبقى مرشحة للمزيد من التصعيد، وخاصة بعد الانتقادات العلنية التي وجهها وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" في خطابه الوداعي لـ"الناتو" الذي وصفه بعدم الحسم والتذبذب في ليبيا، وزيادة الاعتماد على الأميركيين. أما سوريا فتبقى، هي أيضاً، جرحاً مفتوحاً ونازفاً للشهر الثالث، والتغيير فيها لن يأتي بسهولة وبسرعة، في ظل حالة إنكار وعجز إقليمي وغياب الإجماع الدولي حول آلية وكيفية التعامل مع الشأن السوري المرشح أيضاً للمزيد من التصعيد، خاصة مع بقاء نظرية أن الأسد هو الضمانة للأمن وللدور السوري في الكثير من الملفات الإقليمية. وحتى في العراق حيث انتهت مهلة المئة يوم التي حددها المالكي لتحقيق الإنجازات وتطوير وتقديم خدمات أفضل، فقد شهد هو كذلك تفكك التحالفات القديمة وظهور خلافات بين حلفاء الأمس، وصدور انتقادات لاذعة من علاوي للمالكي لعجزه عن تحقيق الإنجازات والخدمات الموعودة. ولذلك خرجت مظاهرات التنديد والمطالبة برحيل المالكي وحكومته، مما يدخل العراق في مسار الثورات العربية مع تحضر الأميركيين للرحيل بدورهم، أو لخفض عديد قواتهم. هذا طبعاً دون إغفال دخول العراق في تشابك مع الكويت حول ميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان، مما يعيد نبش الماضي وإحياء الهواجس بين الطرفين التي تأبى أن تدفن. وهناك طبعاً تعثر عملية السلام بين العرب وإسرائيل. وقد ذكَّرنا توني بلير، مبعوث اللجنة الرباعية بأن الربيع العربي يؤثر سلباً على عملية السلام بسبب القلق الإسرائيلي من التغييرات العربية وخاصة في مصر، وهذا سبب إضافي آخر لتعطيل السلام. وهناك القوى غير العربية من تركيا وانتخاباتها ومشروعها ودورها المتنامي. وإيران ودخولها في مواجهة جديدة مع المجتمع الدولي بسبب زيادة تخصيب اليورانيوم ثلاثة أضعاف إلى 20% في تحدٍّ وموجة جديدة من المواجهات وسط صراع قوى وأقطاب ومراكز في الداخل الإيراني. وفي المجمل فهذا الحراك والتحول وحال عدم اليقين جعل منطقتنا أقرب ما تكون لبرميل بارود تحيط به أعواد الثقاب من كل صوب. وتكفي واحد لإشعاله وتفجيره. فهل نعي خطورة ما يجري من حولنا؟