سياسة الدول سياسة مصالح. والتعاطي مع القضايا الدولية أو الإقليمية والأحداث هنا وهناك، ومع المؤسسات الدولية يستند إلى لعبة المصالح هذه. فعندما يكون تفاهم يكون مبنياً على الحد الأدنى من تقاطع وتبادل المصالح بين الدول الأساسية المقررة. لكل منها ثمن: ملف، حصة. وعندما يكون تصادم يتم ترسيم الحدود، فلا تصل الأمور إلى حد التصادم الميداني. تصبح المسألة مسألة وقت في انتظار بلورة اتفاق ما، أو حدوث أمر ما يضاف إلى اللعبة والمعادلة أو توسيع دائرة البازار وبالتالي، انتظار اللحظة التي يمكن فيها الوصول إلى صفقة تمرّر ما هو مطلوب في المؤسسات الدولية. في مثل هذه الحالة العملية تتجاوز المعايير الواحدة، التي يجب اعتمادها في كل مكان، وحيال كل قضية عند ولوج مرحلة اتخاذ قرار أو تقييم حالة معينة على الساحة الدولية. وتتجاوز المبادىء المكتوبة في مجلدات كثيرة والتي تملأ الشاشات، وتغطي المواقف والتصريحات، كما تتجاوز الشعارات والعناوين التي من أجلها قامت تلك المؤسسات. هذه الأخيرة التي تتخذ فيها القرارات تحت عنوان المحافظة على الاستقرار والتنمية والسلام. ولطالما كانت هي مصدر قرارات أدت وتؤدي إلى عدم استقرار، وإلى حروب، وبالتالي إلى تراجع في التنمية بالتأكيد، وإلى مزيد من الدمار والخراب والفقر والجهل والتخلف والأوبئة المختلفة التي تؤدي كلها إلى تراجع كبير في حياة المجتمعات. هذه المؤسسات التي تتحدث عن الإصلاح والشفافية في العالم وتصدر منها دعوات وقرارات في هذا الاتجاه، وتحاول محاكمة أناس بتهمة الفساد، وعدم الإقدام على الإصلاح، ولطالما وجدنا أن الفساد معشش داخل المؤسسات نفسها، أو أن أصواتاً كثيرة تطالب بالإصلاح من الداخل في الهيكليات والآليات، لكن شيئاً لا يحدث. اليوم، وفي العالم العربي، أزمات، فورات وخضات. أعمال أمنية ترافق الفورات. وأعمال فوضى وانفعال تميزها في أمكنة معينة. الثابت الوحيد، حرائق في كل مكان. خوف على المصير في كل مكان، قلق من حروب داخلية، إهدار ثروات. تدمير مؤسسات، بل تدمير دول. في المقابل دول كبرى تسعى إلى إصدار "قرارات دولية" تبنى على أساس لعبة المصالح المذكورة. مواقف الدول هذه تتكرر، تتعثر، تتغير، تفاجىء، لا تفاجىء. لكنها لا تخرج عن مسار لعبة المصالح. لعبة البازار. اليوم، يتقرر مصير الدول العربية وشعوبها. ربما مصير الخريطة السياسية الجغرافية للمنطقة وأنظمتها. وتأتي كلها دفعة واحدة خلافاً لما اعتدناه في العقود الماضية من القرن الماضي على الأقل. كانت ساحات البازار محدودة أو محددة. وتبادل الرسائل والأفكار والاقتراحات، ثم ابتكار صيغ الحلول يتم في مكان ما لتهدئة مكان آخر أو تمرير صفقة أهم على أرض أخرى، أو لتحقيق أهداف في أكثر من مكان، كل هدف منها يهم دولة من دول القرار الكبرى. اليوم المشهد مختلف. النار، زنــّار . يلف ليبيا، يهدد جيرانها من تونس، إلى الجزائر والمغرب، ويصل إلى مصر. واليمن في دائرة هذا الزنار وفي جسمها أكثر من خنجر ومن ورائها خناجر كثيرة. وسوريا في قلب المنطقة والبحرين في منطقة حساسة جداً جغرافياً وأمنياً، ولو كانت دولة صغيرة المساحة. والعراق زنار نار وراء زنار نار. ملفوفة كلها "بالزنانير" وقد أفقرت من "الدنانير" وهي أغنى الدول. والخليج متأثر بكل ذلك. حول هذا الزنار. تركيا. وإسرائيل. وإيران. دول إقليمية كبرى. تركيا. ترصد.تتابع. تبني حساباتها وفق تطلعاتها إلى دورها المستقبلي الكبير. تتطلع بعيون "أتاتوركية". "إسلامية". "كردية" "أطلسية". وتعتمد ميزاناً دقيقاً حتى الآن. إيران تمارس براغماتية وتعتمد معايير مختلفة، في قراءة الأحداث التي يغلفها زنار النار العربي. إسرائيل تتربص بكل شيء. تريد استغلال كل شيء لمصلحتها. ومرّ خبر مقتل السيد "عوفر"، الذي ورد اسمه في حقيقة بيع أو إرسال سفن إلى إيران، على لائحة العقوبات الأميركية وبعد أيام من إعلان الخبر، مرور الكرام دون أي تعليق، إسرائيل تريد شد الزنار حول عدد من الساحات. ورفع منسوب الحرارة، والدفع باتجاه مزيد من التفاعلات، وهي تنجح في كثير من المحطات والحالات والملفات. والدول الكبرى يبدو بازارها اليوم في دائرة هذا الزنار كبيراً واسعاً. قد لا يكون تفاهم حوله كاملاً. قد يتم التعاطي بالمفرق. قد تكون صفقات هنا، مقابل هدنات هناك، أو صفعات في مكان آخر، ليأتي وقف الصفقات المقبلة. والعرب خارج التأثير والقرار. فراغ قاتل. ضياع. إذا وجد بعضهم فيكون ذلك فقط لحفظ دور وإداء في عمل ما على هذا المسرح. أما في دائرة القرار الفعلية فهم غير موجودين. بالعكس إسرائيل استغلت الأمر لتقول: ما يجري يثبت ألا علاقة للصراع العربي – الإسرائيلي به الذي استخدمه العرب لتبرير تخلفهم وتراجع النمو عندهم وتنامي حركات الإرهاب والأصولية. ها هي الأنظمة تتهاوى أو تتعرض لأزمات ولا تسمع كلمة عن هذا الصراع. بل الأسباب داخلية. لقطة ذكية جداً. والأمر الثاني: تستغل إسرائيل "زنار النار"، لتقول إنها معرضة لمخاطر كثيرة بسببه. أمنها واستقرارها ومستقبلها ومصيرها في خطر. ولا بد من ضمانات استراتيجية كاملة لها. وعلى هذا الأساس فإن الصفقات في "البازارات" يجب أن تأخذ هذه الحالة بالاعتبار الأول. ولذلك سمعنا رئيس الولايات المتحدة يلبي النداء ويتجاوز كل الحدود ليصل إلى حد القول: "إن مصير الولايات مرتبط بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا". العرب في دائرة زنار النار. ومصير أميركا مرتبط بمصير إسرائيل فعلياً بل هو مصير إسرائيل في هذه المنطقة! غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني