لست من المتشائمين، ولست من الخائفين على مصير الثورات العربية، ولا أعتقد أن الثورات العربية ستنتهي بأنظمة حكم شمولية تأخذ شرعية انتخابية وتصادر باسمها الحريات العامة والفردية، وتعيد الأمور على ما كانت عليه إن لم تكن أسوأ من ذلك بكثير. "ليتك خلّيته على طمام المرحوم" -مثل شعبي شائع له قصة لا تصلح للنشر. تذكرته وأنا بين الرجاء والخوف على مستقبل الثورات العربية، فالحرص واجب، والتحسب لاختطاف الثورة وانحرافها عن أهدافها منطق عقلاني، فكم من عمل شعبي تلقائي قامت به الشعوب بمطالب مشروعة، وصادره سماسرة السياسة ودهاتها لمصالحهم، ولنا في البحرين عبرة، حيث قامت في البداية مطالبات شعبية تمس مصالح الشعب البحريني بكافة فئاته، فانحرف المتطرفون بمسار المطالب، ورفعوا شعارات شقت الصف، وروعت الأطراف والجيران، وذكرت بنماذج طائفية في العراق ولبنان، وخلقت مبررات لصدامات دامية لا تزال آثارها أليمة في البحرين حتى اليوم، ولا أظنها ستتلاشى بتجاهلها. وكم من ثورة شعبية أكلت أبناءها، وصادرتها عمائم الدين السياسي فانتهكت الحريات، وقمعت الشعب، ومنعت حرية التعبير، وحاربت معارضيها بالقتل والتعذيب والسجن. شعارات الثورات العربية فيما سمي بالربيع العربي تتناقض تماماً مع شعارات الدين السياسي، فتنظيمات الدين السياسي في غالبها اتخذت العنف والإرهاب منهجاً للوصول إلى السلطة، واعتبرت ما تقوم به "جهاداً" في سبيل الله مهما أوغل في القتل والدموية، مهما حصد من أرواح الأبرياء من المسلمين أنفسهم. بينما ردد ملايين المتظاهرين من تونس إلى اليمن مروراً بليبيا ومصر وسوريا هتافات "سلمية...سلمية"، وهي هتافات تتناقض تماماً مع شعارات القتل والتنكيل، كما رفع المتظاهرون العرب مطالب الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد، وهي مطالب -وإن نادى بها دعاة الدين السياسي- إلا أنها ليست أولوية لدهاقنة التيار المتشدد. فالحرية عبارة ترتبط في العقل الباطن لقوى الدين السياسي بالتفسخ والانحلال، وتنتقل كلمة الحرية بفكرهم مباشرة بالمحرم من العلاقات والشائن من التصرفات، وهو آخر ما يقصده دعاة الدولة المدنية بمطالبتهم بالحرية. الانطباع العام بعد نجاح هذه الثورات، حيث نجحت، هو أنه لا "عودة إلى الوراء"، ولا مجال لكتم أنفاس الناس، ومصادرة الحريات العامة والفردية باسم قوانين "الشريعة" التي يتخوف المدنيون من أن تستخدم كمبرر بديل لقوانين الطوارئ التي طحنت باسمها عظام الشباب العربي بالسجون، وسحلت بها جثث الأبرياء بالشوارع، وعلقت بها المشانق للمشتبه فيهم -مجرد اشتباه- في ساحات عواصم البطش العربية، وسحقت بها كرامات البشر من قبل رعاع وبلطجية وبلاطجة وشبيحة الأنظمة الذين أطلقت أيديهم في رقاب البشر يتحكمون بكسرها، ويفرضون عليها "خاوات" القهر، و"أتاوات" الهزيمة. هناك أجواء متفائلة في مصر العرب، ونفحات أمل في تونس الخضراء، وتنفسٌ للصعداء في اليمن "السعيد" من صعدة إلى حضرموت، ودعوات بالفرج لأهل ليبيا وسوريا، والويل كل الويل لهذه الشعوب، لو أن هذا الأمل خبا وتلاشى، والتفاؤل قتلته الانتهازية في سوق نخاسة السياسة، واختطفته قوى التيار الديني السياسي. فلئن حصدنا كابوس الشمولية بنسخة معدّلة، وتبخرت أحلام الحرية والكرامة تحت سياط العمائم واللحى السياسية، فكأنك يا بوزيد ما غزيت. "خلّه على طمام المرحوم"، مثل يقابله "شيطان تعرفه، أفضل من آخر لا تعرفه" باللغة الإنجليزية، وهو الخوف والحرص على الوليد الجديد الذي يتشكل في دول ثورات "الربيع العربي". فهناك آمال كبار نسجتها دماء الشهداء، وتضحيات الشباب العربي الذي صرخ بأعلى صوته: "حرية وسلمية". وهناك ذئاب سياسة تتربص بهذا الوليد لاختطافه في ليل أظلم، وحينها قد يندم الثوار مستذكرين "طمام المرحوم"!!